أحمد الخميسي
في قاعة صغيرة بمسجد آل رشدان بمدينة نصر أقيم عزاء الشاعر محمود قرني. ووقف ابنه أحمد في أول طابور طويل يستقبل المعزين ويصافحهم. في القاعة ساد الصمت، رغم أن معظم المثقفين الحاضرين يعرفون بعضهم البعض، صمت وحزن غمره في قرارة الروح شعور عميق بالذنب، فقد ظل قرني ثلاث سنوات مريضا يسعى لعلاج كبده من دون أن ترتجف بأقل بادرة استجابة الهيئات الثقافية الرسمية : اتحاد الكتاب، والمجلس الأعلى، ووزارة الثقافة وغير ذلك. وتكررت أمام أعين وضمائر الجميع حادثة الشاعر فتحي عامر، الذي فارق عالمنا في يناير 2005 قبل أن يتم الخمسين عاما، ولم يكن لديه هو الآخر ما يكفي من العلاقات والأموال لعلاج الكبد أو زراعة آخر. وعندما اجتمع بعض أصدقاء فتحي عامر قبل شهرين من وفاته وقرروا أن يصدروا نداء للتبرع من أجل علاجه، رفض فتحي بشدة قائلا بغضب:" لا تشحذوا باسمي". محمود قرني أيضا رفض بشدة كل عروض الأصدقاء التي تقدموا بها لمعاونته ماليا، وقال لي في حديث تليفوني : " شكرا جزيلا. لكن صدقني ليست هناك حاجة. المسائل ماشية". بهذا التعفف وبهذه الكبرياء وقف قرني على حافة الموت، يحدق ليس بصحته، لكن بكرامته. يرحل محمود قرني، وفتحي عامر، وغيرهم ممن يحسبهم الناس " من التعفف " أغنياء، يرحلون إلى الحقيقة التي تضم من لا يتواثبون إلى أي لقاء وكل ندوة وشاشة وميكرفون وأخبار الصحف، ويبقون في الحقيقة شطرة من القصيدة العظيمة التي تكبر تحت افتتاحية المتنبي: " فلا عبرت بي ساعة لا تعزني، ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما " !
رحل محمود قرني فجر الأحد 2 يوليو، قبل ذلك بساعات كتب الأستاذ نبيل عبد الفتاح على صفحته في فيس بوك أن قرني راقد بخير يستعد للعملية في الصباح. كتبت له في المحادثة أقول إنه إذا كانت الأجهزة الثقافية الرسمية قد قصرت معه ، فإننا ايضا مقصرون، لماذا لا نتحرك لتوفير نفقات علاجه؟. واستحسن نبيل عبد الفتاح الفكرة، بل وتخيرنا في ما بيننا عماد أبو غازي لبدء حملة جمع الأموال. لكن لم تمر سوى ساعات حتى رحل عنا محمود قرني، تاركا ذلك الشعور العميق بالذنب، والعجز، وبأن رحيله كان قصيدته الأخيرة ، المشبعة بالتعفف، والكبرياء، واجتناب الضوضاء الزائفة، والبعد عن الصغائر، أو التقرب لأصحاب القرار، رحل شاعرا، كما عاش. وقد صدمني الخبر طويلا، كما تهبط الحقيقة بكل ثقلها على رأس الانسان، فلا يسعه الحركة أو النطق. ولم أجد ما أكتبه على صفحته بعد رحيله سوى : " حقك علينا ". أما رحيله، القصيدة، فسوف نظل نقرأها طويلا، ونرى في كل بيت منها أحوال الذين وهبوا أعمارهم للفن، والفكر، والوطن، وماتوا غرباء، على الطريق الطويل للثقافة المصرية. " حقك علينا" يامحمود. "حقك علينا".