لواء د. سمير فرج
تقاس قوة أي دولة، أو كما يطلق عليها في محاضرات الاستراتيجية في كليات الدفاع الوطنى في العالم، بعناصر محاضرة قوى الدولة الشاملة، وتشمل القوى «العسكرية والسياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية والبشرية والثقافية (القوى الناعمة) وغيرها من القوى».
وخلال الأعوام الماضية، تغيرت أسبقيات هذه القوى في الفكر العسكرى العالمى، فلقد كانت في الماضى الأسبقية الأولى في تحديد قوة أي دولة هي «القوة العسكرية»، فالدولة القوية عسكريًا هي الدولة القادرة على حماية حدودها، كما تمكنها من مهاجمة أي دولة أخرى لكى تفرض عليها شروطها والاستيلاء على ثرواتها، وترهيب الدولة الأخرى بقوتها العسكرية حتى لا تفكر في الاعتداء عليها، وهو ما يطلق عليه الردع Deterrence.
وطبقا للتقديرات السابقة، كانت قوة الدولة السياسية لها وزن مهم أيضا من حيث وجود الدولة ضمن معاهدات وأحلاف عسكرية.. وهذا ما دعا- على سبيل المثال- لقيام بعض الدول الأوروبية الصغيرة التي خرجت من الاتحاد السوفيتى السابق بأن تنضم إلى حلف الناتو ليعطيها قوة سياسية تقف أمام طموح روسيا في العصر الحديث.
إذا حاولت الانقضاض عليها لإعادة ضمها إلى الإمبراطورية السوفيتية السابقة.. وبعد ذلك تأتى القوة الاقتصادية، فالدولة القوية اقتصاديا، بما لها من ثروات طبيعية أو صناعية- مثل اليابان وحاليا الصين- تستطيع أن تبنى جيشا قويا، وأن تحقق لشعبها حياة كريمة.
وبالنسبة للقوة الجيوستراتيجية، نجد أن دولة جيبوتى مثلًا، رغم أنها دولة صغيرة الحجم والتعداد، لكن موقعها على مدخل مضيق باب المندب والبحر الأحمر المسيطر على ثلث التجارة العالمية، وتطل على المحيط الهندى وهى محطة للرحلات الذاهبة عبر طريق رأس الرجاء الصالح.
هذا المكان الجيوستراتيجى أعطاها قوة لكى تكون مهمة؛ لدرجة أنه يوجد على أرضها الآن ست دول تحتفظ بقواعدها العسكرية في هذه الدولة الصغيرة، وهى: (أمريكا وفرنسا والصين واليابان وإيطاليا وإسبانيا).. وهو أمر غير موجود في أي دولة في العالم كله.. فرغم قوتها الجيوستراتيجية، إلا أنها دولة ضعيفة؛ لأن قوتها العسكرية والاقتصادية والبشرية محدودة للغاية.
وفى العشر سنوات الأخيرة، فوجئ الفكر الاستراتيجى العالمى بأن القوة الاقتصادية أصبحت هي أهم القوى الآن لتحديد قوة أي دولة، وتفوقت على القوة العسكرية. وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة هي أقوى دولة في العالم حاليا، لأنها الأقوى عسكريا، والأقوى اقتصاديا. وتجىء بعدها كثانى قوة في العالم الصين، لأنها القوة الاقتصادية الثانية في العالم.
ورغم أن الصين قوتها العسكرية تجىء في المرتبة الثالثة بعد أمريكا وروسيا، لكن بقوتها الاقتصادية أصبحت العدو الرئيسى للولايات المتحدة الأمريكية، حيث يبلغ الناتج المحلى للصين 14.8 تريليون دولار، ويقترب من الناتج المحلى الأمريكى الذي يصل إلى 20.4 تريليون دولار.
وتأتى بعدها اليابان القوة الثالثة اقتصاديا في العالم 4.9 تريليون دولار.. فالدولة القوية اقتصاديا يمكنها تكوين جيش قوى، كذلك الدولة القوية اقتصاديا يمكنها الدخول في حرب طويلة المدى.
ولعل حرب أوكرانيا كانت أكبر مثال على ذلك، فلو كانت أوكرانيا تحارب وحدها دون دعم اقتصادى من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى، لما استطاعت أن تصمد أمام روسيا في حربها ودخولها العام الثانى من القتال، ومثال ذلك إنجلترا عندما ضعفت قوتها الاقتصادية فقد تقلصت إمبراطوريتها التي لم تكن تغرب عنها الشمس وحلت محلها الولايات المتحدة والصين وروسيا، لأنها أصبحت من أقوى القوى الاقتصادية في العالم.. ومن هنا أصبحت الصين حاليا هي العدو الرئيسى لأمريكا، لأنها ثانى قوة اقتصادية في العالم، وتتطور وتتقدم اقتصاديا بسرعة هائلة.
ورغم قيام أمريكا بفرض عقوبات اقتصادية عليها في السنوات الأخيرة، إلا أن التقدم الاقتصادى الصينى يسير بسرعة هائلة، حيث يعتقد العديد من الباحثين أنه لو استمرت الصين بهذا التقدم الاقتصادى السريع، فإنها قد تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم في غضون عام 2030.
وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، حاولت الولايات المتحدة أن تدفع الصين للدخول في نزاعات عسكرية خاصة مع تايوان، بهدف إضعافها اقتصاديا، ولكن الصين تفهمت كل ذلك، ولم تدخل في مصيدة التورط في معركة عسكرية.
وفى الفترة الأخيرة، بدأت تظهر في مفاهيم العلوم الاستراتيجية قوة أخرى لم تكن في الحسبان، هي «القوة التكنولوجية والمعلوماتية والذكاء الصناعى»، فالمعلومات هي أساس اتخاذ القرار.. وكلما كانت المعلومات دقيقة وصحيحة، كان القرار سليما.. وكلما كانت المعلومات خاطئة، كان القرار المتخذ خطأ، سواء من الناحية العسكرية أو حتى الاقتصادية أو السياسية.
من هنا أصبح ذلك العنصر الجديد وهو «القوة التكنولوجية والمعلوماتية» من أهم المفاهيم الجديدة في قوى الدولة الشاملة، لأن الدولة التي لديها قوة تكنولوجية هائلة حاليا تستطيع أن تحصل على معلومات دقيقة، وتطور قواتها العسكرية والاقتصادية معتمدة على التكنولوجيا الحديثة، ومثال ذلك اليابان، التي أصبحت الآن من أكبر القوى العسكرية في العالم.
فهى القوة الخامسة عسكريا نتيجة استخدامها التكنولوجيا المتطورة في مجال الصناعات لتطوير قواتها العسكرية. وأيضا أبسط مثال على ذلك أن الدولة التي لديها أقمار صناعية متطورة تستطيع التجسس والحصول على المعلومات عن كل دولة، بمن فيها بالطبع أعداؤها وأصدقاؤها.
وإذا نظرنا للصين، فإن التقدم التكنولوجى والمعلوماتى الذي يتوفر لها حاليا يصنفها في مكانة عالية جدا. ويكفى أن شركة «هواوى» الصينية التي تعمل في مجال نظم المعلومات قد أصبحت من كبرى ثلاث شركات في هذا المجال في العالم، وقد نجحت في الفوز في مناقصة تطوير شبكة الاتصالات البريطانية بإدخال نظام الـ G5 متفوقة على كل الشركات الأمريكية والأوروبية.
ولكن قامت الولايات المتحدة بالضغط على بريطانيا لرفض العرض الصينى، لأن ذلك يعنى دخول الشركة الصينية على جميع شبكات الاتصالات في أوروبا، وبالتالى تحصل على جميع المعلومات من دول أوروبا وأمريكا.
وكذلك هناك مثال آخر، وهو دخول روسيا على شبكة الانتخابات الأمريكية السابقة، وكان ذلك إحدى مساوئ التكنولوجيا في أمريكا، لذلك ظهرت هذه القوة الحديثة في تكنولوجيا المعلومات لتصبح أحد أهم عناصر تقييم قوة الدولة.
وتتفاخر الصين حاليًا بأن لها نظام إنترنت خاصا بها، ولا تتعامل بنظام الإنترنت العالمى.. ولذلك هي أقل دولة في التعرض لاستخدام هذه التكنولوجيا الحديثة في الحصول على معلومات عن الصين.. ومن هنا تغير المفهوم الحالى في قياس قوة الدولة الشاملة لتصبح القوة الاقتصادية هي القوة الأولى، ثم القوة التكنولوجية الثانية، وبعدها تجىء القوة العسكرية والسياسية والقوة البشرية وباقى القوى الأخرى.. وهكذا، فإن العالم يتغير من حين لآخر طبقا للمتغيرات الجديدة.
نقلا عن المصرى اليوم