اليوم تحتفل الكنيسة بتذكار نياحة القديس العظيم أنبا ابرآم أسقف الفيوم (٣ بؤونة) ١٠ يونيو ٢٠٢٣
في مثل هذا اليوم تنيح القديس الأنبا أبرآم أسقف الفيوم والجيزة وذلك في سنة 1630 للشهداء الأبرار (10 يونيو سنة 1914 م.). ولد هذا القديس وكان اسمه بولس في سنة 1545 ش. (1829) بعزبة جلدة مركز ملوي مديرية المنيا من والدين تقيين فربياه تربية مسيحية وأدخلاه الكتاب فتلقي فيه العلوم الدينية والتراتيل الكنيسة. ولما أظهر نبوغًا بين أقرانه رسمه الأنبا يوساب أسقف صنبو شماسًا علي كنيسة بلدته ومال قلبه إلى الرهبنة فقصد دير المحرق ورُسِمَ راهبًا باسم بولس غبريال المحرقي في التاسعة عشر من عمره.
وكان وديعًا متواضعًا طاهر السيرة كثير الانفراد للصلاة فأحبه الرهبان حبًا جمًا، وسمع به وقتئذ الأنبا ياكوبوس أسقف المنيا فاستدعاه إليه واستبقاه مدة بالأسقفية رقاه في أثنائها إلى رتبة قس، ولما عاد إلى ديره الذي كان عامرًا وقتئذ بالرهبان الأتقياء اتفقت كلمتهم علي أن يختاروه رئيسًا لهم بعد وفاة رئيسهم. ورقي قمصًا في أيام البابا ديمتريوس الثاني البطريرك (111) ولبث خمس سنوات رئيسًا للدير كان فيها الدير ملجأ لآلاف الفقراء حتى أطلق عليه لقب أب الفقراء والمساكين. ولم يأل جهدًا في مدة رئاسته نحو تحسين حالة الدير روحيًا وماديًا، وإنماء ثروته وإصلاح أراضيه الزراعية.
وكان كلما ازداد بَرًّا بالفقراء وإحسانًا لليتامى والأرامل، ازداد حقد بعض الرهبان عليه لأنهم كانوا يعتبرون هذه الأعمال الخيرية إسرافًا وتبذيرًا، فتذمروا عليه وشكوه إلى الأنبا مرقس مطران البحيرة الذي كان قائمًا وقتئذ بالنيابة البطريركية لوفاة البابا ديمتريوس، فقبل شكايتهم وعزله من رئاسة الدير. وبعد زمن يسير من اعتزاله الرئاسة ترك دير المحرق وذهب إلى دير البرموس وأقام به مدة لا عمل له إلا درس الكتاب وتعليم الرهبان وكان رئيس الدير وقتئذ القمص يوحنا الناسخ الذي صار فيما بعد البابا كيرلس الخامس البطريرك (112). كما ذهب إلى دير البرموس مع القمص بولس رهط من رهبان دير المحرق الذين لم يعجبهم حال إخوانهم المتذمرين به وفي سنة 1597 ش. (سنة 1881م) اختاره البابا كيرلس الخامس أسقفا لأبرشية الفيوم والجيزة بدلًا من أسقفها المتنيح الأنبا إيساك فتمت رسامته باسم الأنبا أبرآم.
وقد اشتهر في مدة أسقفيته بأمرين:
الأول:عطاياه للفقراء الكثيرين الذين كانوا يقصدون دار الأسقفية فيهبهم كل ما يكون لديه من المال. وقد جعل دار الأسقفية مأوي لكثيرين منهم. وكان يقدم ثيابا للعريانين وطعامًا لجائعين ولم يسمح مطلقا بأن يقدم إليه طعام أفخر مما يقدم للفقراء واتفق مرة أن نزل ليتفقد الفقراء وهم يتناولون الطعام فلاحظ أن الطعام الذي قدم إليه في ذلك اليوم كان أفخر مما وجده أمامهم فساوره الحزن وفي الحال أقال الراهبة التي كانت موكلة بخدمة الفقراء من عملها.
أما الأمر الثاني: الذي أشتهر به فهو الأيمان التي جرت بواسطتها علي يديه آيات شفاء عديدة حتى ذاع اسمه في أنحاء القطر وبعض بلدان أوربا أيضا وكان يقصده المرضي أفواجا علي تباين أديانهم فيتباركون بصلاته وينالون الشفاء.
وكان الأنبا أبرآم واسع الإطلاع علي الكتب المقدسة يلقي علي زائريه دائمًا نصائح وتعاليم وعظات تدل علي وفرة علمه بأسرار الكتاب المقدس ولكن الأهم من ذلك أنه كان ذا صفات نقية وفضائل جمة. ومن أخص تلك الصفات إنكاره لذاته إنكارًا شديدًا وزهده الحقيقي في ملاذ الحياة وأمجادها فطعامه ولباسه لم يتجاوزا قط حد الضرورة ونفسه لم تكن تطمح إلى أبهة المناصب والرتب حتى أن البطريرك لما أراد أن يرفعه إلى رتبة المطرانية اعتذر عن قبولها بقوله أن الكتاب المقدس لا يذكر من رتب الكنيسة إلا القسيسية والأسقفية. ومن صفاته أيضا أنه كان صريحًا إلى أقصي حدود الصراحة في إبداء رأيه. ولا ينظر فيما يقول إلا إلى الحق لذاته، فتتضاءل أمامه هيبة العظماء ومراكز الكبراء أمام هيبة الحق وجلاله. ولذلك كان مطارنة الكنيسة وأساقفتها يتقون غضبه ويتمنون رضاه.
و قد خصص الأسقف الدور الأول من داره للفقراء والعميان والمرضى وكان يرافقهم أثناء طعامهم اليومي ليطمئن عليهم بنفسه. وكان إذا دخل عليه فقير مدّ يده تحت الوسادة ليعطيه كل ما يملك وأن لم يجد يعطه "شاله" أو "فروجيته".... وله في ذلك قصص مذهلة.
و قد جاء عنه أن أعيان الايبارشية رأوا المطرانية غير لائقة فاتفقوا معه على تجديدها وتوسيعها. وكانوا كلما جمعوا مبلغًا من المال يسلمونه له. أخيرًا جاءوا إليه يطلبون إليه موعدًا للاتفاق مع المقاول على شروط البناء، فتطلع إليهم قائلا: "لقد بنيت يا أولادي!!... لقد بنيت لكم مسكنًا في المظال الأبدية".
و قد ذكر كثيرون ممن باتوا في الحجرة المجاورة لحجرته أنه كان يقوم في منتصف الليل يصلي حتى الفجر بالمزامير، وكان يقف عند القول: "قلبًا نقيًا أخلق فيّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي"، مرددًا إياها مرارًا بابتهالات حارة. وقد شهد الجميع أن صلاته كانت بروح وعزيمة قوية حتى في شيخوخته.
و قال مستر ليدر: "لم أسمع قط في حياتي صلاة كهذه، إذ أحسست بالصلة التي له بعرش النعمة التي تملأ الإنسان استقرارًا دائمًا. لقد بدا لي أن الأرض تلاشت تمامًا لكي تترك هذا الرجل في حضرة الله نفسه يتحدث معه بجلاء".
إننا لا نبالغ إن قلنا أن مئات بل آلاف المعجزات تمت على يدي هذا الرجل وبصلواته.
وفي أحد الأيام اشتاق أن يأكل "فراخًا" فطلب من تلميذه أن يطبخ له ذلك. فلما أعد له الطعام قدمه، فصلى الأب وطلب منه أن يحضره له في اليوم التالي. وتكرر الأمر في اليوم الثاني والثالث والرابع دون أن يأكل منه شيئًا حتى فسد الطعام. حينئذ قال لنفسه: "كلي يا نفسي مما اشتهيت".
من عادته الجميلة أنه ما كان يسمح لأحد من الشمامسة أن يتلو عبارات التبجيل الخاصة بالأسقف عند قراءة الإنجيل، ولا كان يميز نفسه عن شعبه بل يجلس على كرسي عادي كسائر أولاده. وكان يسر بدعوة أولاده له: "أبينا الأسقف"، ولا يسمح لأحد أن يدعوه: "سيدنا".
وعندما زار البرنس سرجيوس "عم نقولا قيصر روسيا" وزوجته مصر عام 1868 وسمعا عن القديس توجها لزيارته، اهتمت الدولة واستقبلته استقبالًا رسميًا، وحاول أعيان الأقباط أن يشتروا أثاثا جديدًا للمطرانية لكنه رفض نهائيًا. ولما جاء الزائران وركعا على الأرض والأب جالس يصلي لهما بحرارة قدما له كيسًا به كمية من الجنيهات الذهبية، أما هو فاعتذر. وأخيرًا أخذ جنيهًا واحدًا وأعطاه لتلميذه رزق. وقد خرج الأمير من حضرته يقول أنه لم يشعر برهبة في حياته مثلما شعر بها عندما وقف أمام القديس العظيم الأنبا ابرام.
قبيل نياحته استدعى القمص عبد السيد وبعض الشمامسة وطلب منهم أن يصلوا المزامير خارج باب غرفته وألاّ يفتحوا الباب قبل نصف ساعة ولما فتحوا الباب وجدوا الأب قد تنيح في الرب.
وانتقل الأنبا ابرآم إلى النعيم في 3 بؤونة سنة 1630 ش. (10 يونية 1914م) فشيعه إلى القبر أكثر من عشرة آلاف نفس من المسلمين والمسيحيين ووضع جثمانه الطاهر في المقبرة المعدة له في دير العذراء بالعزب. وقد ظهرت منه آيات كثير بعد وفاته حيث لم تزل مقبرته كعبة يزورها ذوو الحاجات والأوجاع.
بركة صلاته تكون معنا امين...
ولربنا المجد دائما ابديا آمين...