سمير مرقص
(1) «طاو جوانج يانج هوى»
الكلمات الصينية السابقة هى عنوان الاستراتيجية التى اعتمدتها الصين حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، والتى حددها المنظّر الصينى أبوالإصلاحات الصينية الراهنة «دنج شياو بنج» (1904 ــ 1997)، وتعنى: «التستر على مواهبك وتحيُّن الفرصة المناسبة». مهدت هذه الاستراتيجية الطريق- حسب مارتين بولارد رئيسة التحرير المعاونة فى صحيفة «لوموند ديبلوماتيك»- كى تستعيد الصين «منزلتها» فى المنظومة العالمية، وأن تسترد المكانة التى كانت تتمتع بها منذ القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر عندما كانت فى قلب نظام المبادلات الصناعية الدولى.. هكذا تمددت الصين، بحسب الدراسة (2017) التى قمنا بها حول نموذج الصين التحديثى الداخلى وحضورها العالمى، وكان عنوانها: «التمدد الصينى». وفى هذا المقام، يلفت نظرنا الأستاذ شوقى جلال فى ترجمته لواحد من الكتب المرجعية الشارحة للنموذج الصينى: «التنين الأكبر: الصين فى القرن الواحد والعشرين (2001)»؛ إلى أن «اتجاه آلاف السنوات من الثقافة» والخبرة الصينية التى تعرضت لكثير من المحن والآلام من: مجاعات، وكوارث طبيعية، وانتفاضات شعبية.. إلخ، بالإضافة إلى الاختراقات الاستعمارية من الجار اللدود اليابان، إضافة إلى أوروبا، كانت تُحتم الانطلاق والتقدم.. ولكن بحذر.
(2) «التحديثات الأربعة»
نعم، كان على الصين- كما تقول الحكمة الشعبية الصينية- أن تعمل على: «القفز المتعدد المقترن بالحذر»؛ بلغة أخرى كان مطلوبًا من الصين الزراعية العريقة المتعثرة أن تنجز فى وقت واحد- أى متزامن- ما بات يطلق عليه فى الأدبيات التى تناولت «تجربة التحديث الصينى»: «التحديثات الأربعة Four Modernization»؛ أى إحراز التقدم فى (الصناعة، والزراعة الحديثة، والعلوم والتكنولوجية، والدفاع)، (راجع المرجع العُمدة المعنون: «الصينيون المعاصرون: التقدم نحو المستقبل انطلاقًا من الماضي»، جزءان صدرت ترجمتهما العربية منتصف 1996).. هذه هى القفزة «المركبة» التى اتسمت بالحذر الشديد، ما مكن الصين مع منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة من أن ترى نفسها: قوة عظمى كبرى، حيث تتعامل مع «القوة العالمية الأولى تعامُل النِّد للنِّد»؛ كما أعلن الرئيس «هو جينتاو» أثناء زيارته واشنطن عام 2006، إيذانا بتأسيس مرحلة جديدة فى تاريخ المنظومة الدولية، عنوانها: «صين شريك مكون لنظام دولى متعدد الأقطاب». ويرصد الباحثون أنه منذ تلك الزيارة، وإن لم تتخل الصين عن حذرها بالتمام، إلا أنها باتت لم تعد ـ فقط ـ تقبل الإذعان للقواعد الأمريكية لتسيير المنظومة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، وإنما تعمل ماديا على تغيير تلك القواعد لتستجيب للتمدد الصينى وطموحاته، للشراكة فى قيادة العالم ومعه القوى الصاعدة كروسيا والهند والبرازيل.
(3) «العقلانية المرنة»
حققت الصين انطلاقتها الراهنة، وفق تصور يقوم على وصف كثير من الأدبيات بـ«العقلانية المرنة»؛ ويقوم هذا المبدأ على العناصر التالية: أولًا: أن تؤمّن مشروعها التنموى وتوسعها الإمبراطورى من الوقوع فى شباك أزمات الاقتصاد العالمى التى باتت متتالية ومزمنة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضى. ثانيًا: حماية النموذج التنموى الصينى من الوقوع فى أسر التبعية الاقتصادية للغرب. ثالثًا: العمل بدأب، ومع مرور الوقت، إلى أن تميل الموازين الاقتصادية/ التجارية لصالح الصين. رابعًا: تسويق وترويج النموذج الصينى التنموى فى جميع قارات العالم للدول التى تبغى أن تتقدم خارج إطار التبعية للغرب.
وقد استطاعت العناصر السابقة مجتمعة أن تُمكّن الصين بالأخير من أن تسهم فى الاقتصاد العالمى بنسبة تقترب، وربما تزيد، من الـ 50%.. مقارنة بمساهمة أمريكا الشمالية، حيث تصل نسبتها إلى 25%، والاتحاد الأوروبى تبلغ مساهمته ما يقرب من 20%.. استطاعت الصين أن يكون لها حضور قوى مع الكثير من دول العالم، ليس من خلال الصيغ التقليدية التى اتبعتها القوى الكبرى تاريخيا بملء الفراغ القسرى فى البلدان المختلفة، وإنما عملت على الشراكة التعاونية العملية التى تقوم على تبادل المنافع فى سبيل تلبية احتياجاتها الضرورية لمشروعها التنموى الضخم من المواد الأولية، نظير تقديم القروض والخبرات والسلع والمنح والبعثات لهذه البلدان.. هكذا حققت الصين انطلاقتها بانضباط شديد.
(4) «ما بعد المقال: مبروك صديقى حلمى النمنم»
تهنئة قلبية للمؤرخ والكاتب الصديق العزيز الأستاذ «حلمى النمنم»، وزير الثقافة الأسبق، بتكريمه فى بيروت من قبل جامعة الآداب والعلوم التكنولوجية، بمنحه الدكتوراة الفخرية فى الفلسفة عن مجمل كتاباته التاريخية التنويرية وجهوده الثقافية.
نقلا عن المصرى اليوم