مينا بديع عبد الملك
في 15 بؤونة (الموافق 22 يونيو) تحتفل الكنيسة القبطية'> الكنيسة القبطية بتذكار تكريس كنيسة القديس مينا الأثرية بمريوط، تلك الكنيسة التي تجذب أنظار المصريين والأجانب نظرًا لتاريخها المجيد. ففى عام 2011 أصدرت جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية الطبعة الثانية من كتاب «مارمينا العجايبى ومدينته العجبية» بقلم الطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى ورئيس الجمعية زهاء ثلاثين عامًا لـ د. منير شكرى (1908 – 1990) الذي فيه قدم عرضًا رائعًا عن تاريخ المنطقة ثم تاريخ اكتشافها على يد البعثة الألمانية عام 1905
تقع منطقة أبومينا بمريوط قرب الإسكندرية على حوالى 50 كيلومترًا منها، وتقريبًا في منتصف المسافة بينها وبين وادى النطرون وتمتد أطراف هذه المنطقة- التي ترقى إلى مستوى المدينة- في حدود صحراء مريوط حتى تشغل مساحة لا تقل عن أربعين ألفًا من الأمتار المربعة بما عليها من بقايا الكنائس والأديرة والحمامات والمنازل والأسواق وغيرها. وتتوسط هذه جميعًا، الكنيسة الرئيسية الرائعة التي طالما انتزعت إعجاب المؤرخين القدماء فأطلقوا عليها اسم «أجمل وأعظم كنيسة مصرية»، «تحفة من روائع الفن المسيحى»، «مسرة لجميع شعوب مصر»، «الأكروبول المسيحى القديم»، وأيضًا «المدينة الرخامية». أما الشهيد المصرى الذي تحمل المنطقة اسمه فهو القديس مينا الملقّب بـ«العجايبى»، فهو من عائلة مصرية نبيلة، وأصل والديه «أودوكسيس» و«أوفومية» من المدينة المصرية الشهيرة المُسماة باليونانية «نيقيوس» وتعنى بالمصرية «المنتصرون»، وتسمى أيضًا «إبشاتى» (التى هي الآن زاوية رزين – بمحافظة المنوفية).
وقد وُلد الشهيد المصرى في عام 285م، وانخرط في الجندية- كأحد النبلاء- وهو يبلغ من العمر 15 عامًا، وشغل وظيفة نائب للقائد العام للجيش بولاية فريجيا بآسيا الصغرى. بعد أن صدر منشور دقلديانوس الذي يأمر كل إنسان بعبادة الأوثان، انسحب القديس مينا إلى الصحراء بغرض النسك والعبادة، وبعد أن قضى نحو خمس سنوات في الرهبنة، غادر الصحراء إلى المدينة وجاهر بإيمانه المسيحى واستشهد بقطع رأسه بحد السيف في 24 نوفمبرعام 309م وهو يبلغ من العمر 24 عامًا، وبعد ذلك اصطحب بعض الجنود جسده المبارك وذهبوا به إلى منطقة مريوط وهناك تم دفنه.
كان نواة منطقة أبومينا قبرًا صغيرًا ضم رفات الشهيد المصرى مينا، ففى بداية الأمر تم بناء مقصورة صغيرة فوق قبر القديس في أوائل القرن الرابع الميلادى ثم أقيمت الكنيسة الأولى فوق هذه المقصورة في منتصف القرن الرابع. ولما ضاقت هذه الكنيسة بالأعداد الغفيرة المتزايدة من المصلين، شُيدت على امتدادها من الجهة الشرقية كنيسة فخمة رحبة في أوائل القرن الخامس الميلادى بأمر من الإمبراطور أركاديوس (395 – 418م) الذي لم يدخر
جهدًا في زخرفتها وتزيينها بأثمن أنواع الرخام والفسيفساء والنقوش البديعة، وقد كان لهذه الكنيسة بهاء وروعة انتزع إعجاب المؤرخين القدماء. واشتهرت المنطقة بكميات الأوانى الفخارية الهائلة المحلاة بصورة الشهيد المصرى واسمه التي عثر عليها في شتى أرجاء العالم. بدأ بعد ذلك نجم المدينة في الاختفاء وأخذت عوامل التخريب والتدمير تتألب عليها. بعد ذلك تكاثرت عليها عوامل التدمير وغمرتها رمال الصحراء، حتى دخلت المدينة العظيمة في طى الصمت والكتمان والنسيان. حتى أمكن اكتشافها على يد أفراد البعثة الألمانية الأثرية التي حضرت من فرانكفورت عام 1905م بقيادة الأسقف الألمانى كارل- ماريا كاوفمان. لم يكن وصول كاوفمان إلى المدينة صعبًا لدرجة ما؛ إذ إن الذين سبقوه قد ألقوا ضوءًا واضحًا عليها، خاصة ما قام به الرحالة «كارفر». فأول رحالة ذكره التاريخ على أنه زار كرم «أبومينا» أو «بومنه» هو «باخو» وكان ذلك عام 1824م حين مر صدفة بالمنطقة وهو في طريقه من «أبوصير» إلى قصر «القطاجى». جاء بعد ذلك الرحالة «يونكرز».
في عام 1904 نشر الأدميرال «ماس بلومفيلد» مقالًا بعنوان (مارمينا الإسكندرى) بمجلة جمعية آثار الإسكندرية تحدث فيه عن أوانى القديس مينا الفخارية التي صُنعت في مدينة «بو مينا»، ثم حدد أيضًا مكان كنيسة مارمينا الكبرى على أنها تقع في أقصى الجنوب، ثم طلب من جمعية الآثار بالإسكندرية (التى تأسست عام 1893م) أن تقوم بالبحث عنها.
في عام 1905 درس دكتور «موريه» أيضًا أوانى القديس مينا الفخارية، ثم كتب إلى الرحالة «كارفر» بالإسكندرية ليتتبع مصدر هذه الأوانى ليصل إلى مدينة «أبومينا» التي تحدث عنها التاريخ. وبعد دراسات وأبحاث قام بها «كارفر» استنتج لأول مرة أنه لابد أن تكون هناك صلة بين اسم الموضع الذي يطلق عليه العرب «بومنه» واسم مدينة «أبومينا»؛ ولذا عزم على الذهاب إلى «بومنه» هذه واستقل قطار مريوط (أو قطار الصحراء) إلى محطة بهيج، ومن هناك سار جنوبًا لمدة ساعتين بإرشاد أحد البدو حتى وصل إلى مكان مملوء بالحجارة والقطع الفخارية والقوارير المصبوبة. فكتب تقريرًا إلى دكتور «موريه» في 26 أغسطس 1905 وأرفق به لوحات ورسومًا مختلفة للأوانى التي وجدت.
نظم أيضًا العالم الإيطالى د. «بريشيا» رحلة في عام 1904 لاستكشاف الصحراء الغربية بحثًا عن مدينة «أبومينا»، وظل يجول هناك حتى قابل البعثة الألمانية بقيادة المونسينيور الألمانى «كارل – ماريا كاوفمان» (1872 – 1951). وهنا كتب «بريشيا» يقول: (.. واضطررنا للانسحاب بكل تواضع أمام البعثة التي كان يقودها الأسقف كاوفمان الذي جاء إلى مصر بغية الوصول إلى نفس الهدف، إذ إنه كانت لدى هذه البعثة الكثير من الإمكانيات المادية والاستعدادات الطبية مما لم يكن في استطاعتى الحصول على مثله).
رغم كل المحاولات السابقة للوصول إلى هذه المنطقة والاستعدادات الضخمة التي كانت لبعثة كاوفمان- كما ذكر د. بريشيا- فإن البعثة واجهت صعوبات جمة في عملها، إذ إنه بعد مسيرة 30 يومًا على ظهر الإبل في دروب الصحراء الليبية وصلت البعثة الاستكشافية الآتية من وادى النطرون مخترقة صحراء أولاد على، إلى مجمع آثار أبومينا، عادوا بعدها إلى المعسكر وهم مجهدون، خائرو الهمة، معتقدون أنهم فشلوا في بلوغ هدفهم. وأقاموا مدة يومين في خيام يرفرف عليها العلمان المصرى والألمانى والتى وضعتها الحكومة المصرية تحت تصرفهم. وودعوا الدليل البدوى بعد أن أمضوا عامين تحت شمس ليبيا المحرقة على أمل العثور على المدينة الأثرية. قابلت البعثة العديد من الأطلال التي لم تمسسها يد قط في كرم أبومينا. وعندما سقط كاوفمان مريضًا، فكروا في العودة إلى بلادهم بعد أن تملك منهم اليأس!! لكن أتى وقتئذ أحد الصبية البدو بآنية كاملة من أوانى القديس مينا، وقدمها إلى «فولز» مساعد كاوفمان، وأخبره أنه وجدها في أحد أفران الفخار القديمة بالقرب من المكان الذي ينقبون فيه.
وأخيرًا أرشدهم أحد البدو إلى مكان يدعونه «قلعة الخليفة»، وهو كوم من الحجارة المتراكمة. وفى الحقيقة لم تكن قلعة الخليفة هذه بعد البحث والتنقيب سوى مكان كنيسة البابا ثاؤفيلس الأثرية (385 – 412م) البطريرك 23. وقد تم هذا الكشف الكبير في 7 يوليو 1905، وبعد ذلك عادت البعثة إلى الإسكندرية لتنظيم عملها ثم استأنفت الحفريات في نوفمبر من نفس العام. أطلق كاوفمان على هذه المدينة المرمرية اسم «الأكروبول المسيحى القديم»، ذلك المكان الذي يُعد مزارًا مسيحيًّا قديمًا يحضر لزيارته العديد من الزوار من مختلف أنحاء العالم.
الدكتور منير شكرى
في عام 1959 فور جلوس البطريرك المُلهم البابا كيرلس السادس (1902 – 1971) البطريرك 116على الكرسى المرقسى أبدى اهتمامًا واضحًا- بالتعاون مع جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية (التى تأسست في نوفمبر 1945)- لإحياء منطقة القديس «مينا» بمريوط. وكان البابا كيرلس طوال فترة رهبنته مشغولًا بإحياء تلك المنطقة وإعادتها إلى مجدها السابق، فبادر البابا بزيارة المنطقة الأثرية بصفة دورية وإقامة الصلوات بها. وكانت أول زيارة له في يوم الجمعة 26 يونيو 1959 (أى بعد ستة أسابيع من إقامته بطريركًا في 10 مايو 1959) وأقام الصلوات الكنسية في المنطقة الأثرية. ثم قام ببناء دير حديث يبعد مسافة- مسموح بها أثريًّا- عن المنطقة الأثرية حيث قام بوضع حجر أساس الدير في يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959، ثم وضع حجر أساس كاتدرائية كبرى- كالتى كانت عليها الكنيسة القديمة- في يوم الجمعة 24 نوفمبر 1961. وبذلك أحيا البابا كيرلس السادس أمجاد تلك المنطقة مرة أخرى حتى إن هيئة اليونسكو ضمتها إلى مجموعة التراث الإنسانى الخالد.
نقلا المصرى اليوم