فاطمة ناعوت
مبادرةٌ إنسانية نبيلة قدّمها أبٌ سعودى اعتصره الألمُ على فقد نجله الشاب ابن الستة عشر عامًا، المتوفى سريريًّا. لم يمنعه وجعُ الثكل المرير- لا جرّبنا اللهُ به فإنه الويلُ العظيم- من التفكير في إنقاذ آخرين على وشك الموت. بل ربما دفعه وجعُ الفجيعة إلى مساعدة ستة أشخاص من المُحتضرين يتأهبون لاستقبال الموت بسبب معاناتهم من القصور العضوى في مراحله النهائية. منح «قلبَ» ابنه الراحل إلى طفل في السابعة من عمره يعانى من الفشل القلبى. وأهدى إحدى «كُليتىْ» ابنه لطفل في الثانية عشرة، والأخرى لشاب في عمر ابنه الراحل. وأهدى الرئتين لمريض فشل كلوى في الثامنة والستين من عمره. أما «البنكرياس» فقد زرعه في جسد مُحتضر في الثلاثين من عمره قضى معظمه في الغسيل الدموى، أما «الكبد» فقد منحه لشابة في التاسعة والعشرين عاشت حياتها تعانى من الفشل الكبدى. وتمت جميع الاستئصالات والزراعات الطبية السابقة في مركز لزراعة الأعضاء بسرعة قياسية ووفق الأخلاقيات الطبية المعتمدة.
واشتعل الجدلُ على صفحات سوشيال ميديا حول صنيعة الأب، ما بين مُطوّبٍ مادحٍ رأى فيه بطلًا متحضّرًا نبيلًا، وبين لاعنٍ مُكفِّرٍ يراه مجرمًا منح ما لا يملك، حيث: «إننا لا نملك أجسادنا، بل فقط لنا حق الانتفاع بها حتى الموت، وبالتالى ليس من حقنا التبرع بها»، وفق إحدى الفتاوى والاجتهادات. أولئك ربما ينسون قوله تعالى: «ومَن أحياها فكأنما أحيا النَّاسَ جمِيعًا»/ المائدة ٣٢. والضميرُ في الآية الكريمة يعود على «النَفْس». أي يقول الرحمنُ الرحيم إن مَن أحيا نفسًا أي إنسانًا، فكأنما منح الحياة للناس جميعًا، فطوبى لهذا الأب النبيل الذي نال تلك المكرمة الرفيعة. اللهم أثلج قلبَه بالصبر الجميل على فقده فلذة كبده، رحمة الله عليه.
ذذكّرنى نبلُ هذا الأب بفيلم أمريكى شهير من إنتاج عام ٢٠٠٨، عنوانه: «سبعةُ أرطال Seven Pounds» من إخراج «جابريل موشينو»، وبطولة «ويل سميث»، مأخوذ عن رواية «جرانت نايبورت».
يحكى الفيلمُ عن مهندس طيران ناجح تسبّب، دون قصد، في مقتل سبعة أشخاص، من بينهم خطيبته، في حادث سيارة. أظلمتِ الدنيا أمام عينيه، وراح يفكّر فيما عساه يفعلُ ليتحررَ من الذنب. كيف يُعيد سبعة أرواح أزهقها في لحظةٍ، غفل فيها عن قواد سيارته لينظر في هاتفه المحمول؟!. ما كان بوسعه أن يُكمل حياته بسلام بعد حادث، اعتبره القانونُ قضاءً وقدرًا. قرّر الشابُّ أن يقتطع من لحمِه سبعة أرطال ليهبَ بها الحياةَ لسبعة مُحتضرين ينتظرون الموت. ودقّق في اختياراته ليكونوا من الطيبين النبلاء. شقيقُه، المصاب بسرطان الرئة، منحه جزءًا من رئته. ومنح سيدةً طيبةً أخرى فَصًّا من كبده. وبعدما تعافت سألها أن ترشّح له أسماء مأزومين طيبين، فدلّته على امرأة فقيرة تقاسى بطشَ بلطجى يستعبدها هي وأطفالها، فمنحها منزلَه الجميل على شاطئ الأطلنطى، وانتقل للسكن في غرفة متواضعة. ثم منح رجلًا مصابًا بالفشل الكلوىّ إحدى كليتيه. ثم رقد ساكنًا ليمتصَّ الأطباءُ بمحقن غليظ النخاعَ من عظامه، معاينًا ألمًا لا يوصف ليحقنوه في جسد طفل مصاب بسرطان النخاع. ثم يقرر أن ينقذ شابة سمراء تعيش آخر أيامها بسبب ضعف حادٍّ في عضلة القلب، فيقوم بتجهيز حوض زجاجى ضخم من الزجاج يضعه في غرفته ويربّى فيه قنديل بحر سامّ حتى يتوحش. ثم يملأ البانيو بجرش الثلج ويرقد فيه حتى يتخدّرُ جسده بفعل الجليد، ثم يأتى بقنديل البحر ليسبح جواره ويلسع معصمه لسعةً سامّة مُتحملًا اللدغات المميتة بصبر القديسين، بعدما يكون قد اتصل بالإسعاف ليخبرهم أنه ينوى الانتحار. يُنقل إلى المستشفى في محاولة لإنقاذه. ثم يُبرز صديقُه الوصيةَ التي يعلن فيها تبرعه بقلبه إلى الجميلة السمراء. بهذا يكون قد منح أشخاصًا ستة ستَّ قطعٍ من جسده كعطايا ربوبية لا تُرَد. أما القطعة السابعة، فكانت عينيه اللتين تبرع بهما لشابٍّ موسيقىٍّ موهوب كفيف البصر مشهور بأخلاقه الرفيعة. كان هذا شرطه الوحيد في اختياره مَن يستحقون هداياه الثمينة. أن يكونوا من ذوى الجمال الروحى والرقّى الإنسانى، وفقط.
هل تذكرون مسرحيةَ «تاجر البندقية»، The Merchant of Venice، التي كتبها «وليم شكسبير» عام ١٥٩٦؟. فيها نتعرّف على «شايلوك»، المُرابى اليهودىّ، الذي قرّر استرداد قرضه من مَدينه المسيحىّ «أنطونيو»، ليس مالًا، ولا قِطعًا من الذهب أو الفضّة، بل رطلٌ من اللحم البشرى!، لحم «أنطونيو». كان هذا نوعًا من الثأر الوحشىّ الرخيص انتقامًا من «أنطونيو»، الذي أهانه، وبصق عليه!.
لو شاهد كائنٌ فضائىٌّ مسرحية «تاجر البندقية» ق١٦، وفيلم «سبعة أرطال» ق٢١؛ سيقول إننا سكان الأرض قد انتقلنا، عبر خمسة قرون، من الهمجية والوحشية إلى التحضّر والسموّ، فهل صدق؟.
نقلا عن المصرى اليوم