القمص يوحنا نصيف
في إحدى المناسبات التي دُعِيَ فيها الربّ يسوع للعشاء، قدّم تعليمًا جميلاً للّذي دعاه، عندما قال له:
"إذا صنعتَ غذاءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك، ولا الجيران الأغنياء، لئلاّ يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعتَ ضيافة، فادعُ المساكين الجُدع العُرج العُمي، فيكون لك الطوبى، إذ ليس لهم حتّى يكافئوك، لأنّك تُكافَأ في قيامة الأبرار" (لو14: 12-14).
ويعلّق القدّيس كيرلّس الكبير تعليقًا طويلاً وجميلاً جدًّا على هذا التعليم الإلهي، أقتطف منه في هذا المقال بعض الفقرات:
+ كما أنّ أولئك المَهَرَة في رسم الأشكال في الصور، لا يمكنهم بواسطة لون واحد أن يبلغوا إلى الجمال الكامل في رسمهم، بل بالأولى يستخدمون أنواعًا مختلفة ومتعدّدة من تدرُّج الألوان، هكذا أيضًا إله الكلّ.. مُعلِّم الجمال الروحاني، يُزيِّن نفوسنا بتلك الفضائل المتنوّعة، التي تكون في سموّ حياة القداسة، لكي يكمل فينا شبهه؛ لأنّ أفضل وأعظم جمال في خلائقه العقليّة هو على شبه الله.. لذلك لاحِظوا كيف أنّ سيّدنا يسوع المسيح يجعل نفوسنا جميلة، بواسطة كلّ زينة روحيّة..!
+ هل إرادته أن نكون غير اجتماعيّين، ولا نصادق أحدًا؟ حتّى أنّنا لا نحسب أصدقاءنا وأقرباءنا مستحقّين لتلك المشاعر، التي تناسبهم بنوعٍ خاصّ، وهي واجبة لهم؟ وهل لا نعطِي أيّ اعتبار لأولئك القريبين مِنّا بالعاطفة والحُبّ؟ وهل هو يمنع واجبات حُسن الضيافة؟.. ماذا إذًا يريد الربّ أن يُعلِّمنا؟!
ربّما يكون شيئًا ما كما يأتي:
+ هؤلاء الذين يمتلكون ثروة كبيرة، يُعطون اهتمامًا كثيرًا لإظهار غِناهم، والتفاخُر أمام الناس، لأنّهم كثيرًا ما يَدعون أشخاصًا للغذاء معهم، ويُعِدُّون موائد ذات تكاليف باهظة.. ليربحوا مديح وإطراء ضيوفهم.. أيّ نفعٍ يوجد في مثل هذا التبذير الكثير..؟ وكما قال المسيح نفسه في موضع ما: الحاجة إلى أشياء قليلة، أو إلى واحد فقط (لو10: 42).
+ ينبغي أن نُنفِق ثروتنا في الأمور التي سوف تحمل ثمارًا طيّبة، لذلك فهو يأمرنا أن ندعو المساكين والجُدع والعُمي، وأؤلئك الذين يعانون من أمراضٍ جسديّة أخرى، وبسخائنا في تتميم هذا، فإنّنا نبلغ إلى الرجاء الآتي من فوق، من الله. لذلك فإنّ الدرس الذي يُعلِّمنا إيّاه هو محبّة الفقراء'> محبّة الفقراء؛ الأمر الذي هو ثمين في نظر الله.
+ هل تشعُر باللذة عندما تُمدَح، حينما يكون لك أصدقاء وأقارب يشاركونك الوليمة؟ إنّني سأخبرك عن شيء أفضل جدًّا.. الملائكة والقوّات العقليّة من فوق، وكذلك القدّيسون أيضًا، سوف يثنون على سخائك؛ بل إنّ الله الذي يفوق الكلّ، والذي يحبّ الرحمة والشفقة، هو أيضًا سيقبل سخاءك. أقرِضْهُ دون أن تخاف شيئًا، وأيّ شيء قد أعطيته ستأخذه مع أرباحه، لأنّه يقول: "مَن يتعطّف على المسكين، يقرض الربّ" (أم19: 17). إنّه يُقَدِّر ما تُقرضه، ويَعِد بالوفاء..!
+ العطف على الفقراء سيجعل ثروتك ذات رائحة حلوة. اشترِ النعمة التي تأتي من الله، واقتنِ ربّ السماء والأرض صديقًا لك.. فنحن بالتأكيد بعد القيامة من الأموات سوف نقف في حضرة المسيح، وسوف توجَد بالضرورة مكافأة للرحومين والشفوقين..
+ النفس أفضل من الممتلكات، والحياة أفضل من الثروة. نحن الآن مُدانون في خطايا كثيرة، ويلزم أن نقدِّم حسابًا للديّان عن كلّ ما فعلناه، فلماذا لا نخلِّص أنفسنا إذن من الدينونة والنار الأبديّة مادام الوقت يسمح لنا؟! والطريقة التي بها ننقذ أنفسنا هي أن نحيا في قداسة، ونعزّي الأخوة الحزانى بسبب فقرهم، وأن نبسط أيدينا بسِعَة لجميع مَن هم في احتياج، وأن نتعاطف مع المرضى.
+ أخبِرْني ماذا يوجَد أصعب من الفقر، هذا الوَحش الذي يفترس بلا هدوء، هذا السمّ الذي ليس لنصيحةٍ أن تَشفِيَ منه، الذي هو أردأ الأمراض، بل بالحريّ هو أكثر قسوة من أيّ مرض؟! لذلك يجب أن نمدّ يد المعونة لأولئك الذين يعانون منه، ويلزم أن نفتح قلوبنا لهم بسِعة، ولا نعبر بدون مبالاة على عويلهم..!
+ أمِل أذنك إلى الفقير واستمع له، كما هو مكتوب: "مَن يسدّ أذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضًا يصرخ ولا يستجيب له أحد" (أم21: 13). أعطِ لكي تأخُذ، استمع لكي يُسمَع لك، ابذِر القليل الذي لك حتّى تحصد كثيرًا.. العطاء والمحبّة للفقير يتوّجان الذين يمارسونهما، بالمجد من الله، ويقودانهم إلى تلك السعادة التي لا تضمحلّ، التي يهبها المسيح للذين يحبّونه.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 103) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف