ألفي كامل شنّد
لم تكن شرارة الاحتجاج التي أطلقها الراهب الألماني مارتن لوثر، في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي ضد السلطة البابويةالكاثوليكية تبغي الإصلاح الديني فحسب، وإنما كانت وليدة تحولات اقتصادية واجتماعية، ولدت لدى العامة والحكام الرغبة في التحرر من سلطة الكنيسة، وتدخل رجال الكنيسة في كل شيء. والحد من تحويل الأموال التي كانوا في أشد الحاجة اليها إلى إيطاليا، لتمويل الحملات العسكرية، ودفع المعاشات لأسر الشهداء من الجنود في الحروب البابوية، والانفاق على البناء والتجديدات في كاتدرائية القديس بطرس في روما، مما أتاح تفوق إيطاليا اقتصاديا وازدهار مركزها التجاري.
ولادة مذهب ديني جديد، يستند على نصوص الكتاب المقدس، بتقبل القيم المصاحبة لتطور النشاط الاقتصادي، عقب الاكتشافات الملاحية الجغرافية، والاختراعات الصناعية التي ترتكز على العقلانية والعمل الحرّ والتنافسية وعلى القروض (الربا) التي كانت تحرمها الكنيسة الكاثوليكية. واعتبار الغنى والرفاهية والترف نعمة من الله كما يقول العهد القديم. مقابل القيم الكاثوليكية بالحذر من المال وفضائل الفقر والزهد والامتات والصو م. وبما لاشك فيه، كما توصل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أدت الاخلاق البروتستانتية، واباحة "الربا" إلى نشوء الرأسمالية الجديدة، وتقدم الدول البروتستانتية اقتصادياً قبل البلدان الكاثوليكية في أوروبا.
وأنتقد رجل الدولة والفيلسوف الإنساني والكاتب الاشتراكي توماس مور الحركة البروتستانتية في بداية نشأتها ، ورأى من وجهة نظره أنها تفسد الاخلاق الكاثوليكية ، ولا تراعى العدالة، وتهدد وحدة الكنيسة وتعدد الملل والطوائف الدينية في إنجلترا .وإستعان يه هنرى الثامن ملك إنجلترا في التصدي للحركة البروتستانتية وفي لردّ على لاهوت مارتن لوثر من خلال كتاب وضعه هنري الثامن بعنوان «في الدفاع عن المقدّسات السبع»، يقال أن توماس مور هو الكاتب الحقيقى .ما رفع من شأن مور لدى، الملك، ليس كسياسي فقط ، بل كمفكر أيضا وهي سلعة كانت شبه نادرة في البلاط الإنجليزي .
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن عداء مور للأخلاق البروتستانتية، يرجع إلى خبرة سيئة مرّ بها في بداية حياته في مجال الأعمال التجارية ليكفل حياته وحياة أسرته، و كمفاوض باسم بعض الشركات الإنجليزية في بلجيكا، ونجح في ذلك نجاحاً كبيراً، لكن رأى في تلك الاخلاق الرأسمالية البروتستانتية اختلاسا لحقوق الآخرين.
أيضا انتقد ككاتب اشتراكي الأحوال في أوروبا في عصره في كتاب حمل عنوان "يوتوبيا" وهى كلمة جديدة أدخلها الى عالمنا و قاموس اللغة ، ولم تكن موجودة من قبل، وقصد بها "المدينة المثالية" . وبالرغم من أن فكرة الكتاب ليست جديدة، بل سبق أن تناول جوانب كثيرة منها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، فإنه عرض رؤية نقدية شديدة لواقع للسياسة الإنجليزية والأوروبية، ومهد الكتاب الطريق بعد ثلاثة قرون لظهور الأفكار الاشتراكية ذات النزعة الإنسانية. ويُعد مرجعاً في فلسفة الحكم، وواحدًا من روائع الأدب العالمي.
ينقسم كتاب "يوتوبيا" الذي نُشر عام 1516 م إلى جزأين: أولهما ينقد فيه مور حياة الفساد والطغيان لدى الإنجليز في أوائل القرن السادس عشر. وثانيهما يُصوّر لنا مجتمع "يوتوبيا" الفاضل. فيقول أثناء إقامته في هولندا برفقة صديقه أرازموس تقابل مع بحار برتغالي، يُدعى «رافاييل هيثلوداى» روى له ما شاهده في جزيرة يوتوبيا.: يقول على لسان البحار رفائيل الشخصية الرئيسية في الكتاب: إن المجتمع الشيوعي هو العلاج الوحيد لمرض الأنانية في الحياة الخاصة والحياة العامة على السواء، ففي الـ"يوتوبيا " لا تتركز السلطة والمال بأيدي الحكام، وللمرء الحق في اعتناق أي عقيدة دينية، اللهم إلا الإلحاد وإنكار خلود الإنسان. وللمرأة في يوتوبيا حقوق مساوية للرجل، ولا وجود للملكية الخاصة أو حتى الفردية، والاطفال والشيوخ يعيشون فيها كطبقة الامراء في إنجلترا. وطالب في كتابه الاقتداء بمجتمع "يوتوبيا" وحق المرأة في العمل والانخراط في الجيش ويجب أن يحصل الجميع على التربية والتعليم على قدم المساواة وان يكون التعليم حكومي ومجاني. وطالب بإلغاء عقوبة الإعدام، ولا تزيد ساعات العمل عن 6 ساعات في اليوم.
ورغم محاولته تقديم العلاج للقضاء على الفساد واقامة مجتمع مثالي في عمله الرائع "يوتوبيا"، فأنه لم يسلم من سهام الفساد. فبعد ما خبت آمال الملك هنري الثامن الحصول على موافقة البابا كليمنت السابع بطلان زواجه ، سعى الملك في استحدام نفوذ مور في الوصول لمآريه، لكنه فشل ان يخالف القانون الكنسي لارضاء أهواء الملك ، ودفع حياته ثمناً لذلك.
من هو توماس مور؟
وُلد توماس جون مور عام 1478 في مدينة لندن في انجلترا، وهو الابن الأكبر لمحامي ناجح وقاضى بارع في البلاط الملكي الانجليزي. تلقى مور التعليم في أرقى وأفضل المدارس الإنجليزية، ودرس القانون في جامعة أكسفورد، واثناء الدراسة عمل لدى رئيس الأساقفة مورتون، وكان لهذا الاسقف الفضل في تثبيت عقيدته المحافظة وتقواه المرحة. وتنبأ مورتون، كما يقال، بأن "هذا الطفل الذي يخدم هنا على المائدة... سوف يثبت انه رجل عجيب"
تميز مور منذ صغره برجاحة العقل، وتدينه الشديد، وتذوق الموسيقى، وعشقه الكبير للرسم. يصف صديقه الحميم أرازموس الذى لازمه طوال عمره في خطاب بعث به إلى هوتن مور: ملامحه وخصاله بأنه كان متوسط القامة ذو بشرة شاحبة وشعر أصحم لا يهتم بالملبس أو المظهر ،زاهد في الطعام والشراب، منشرح سريع النكتة حاضر الابتسامة، يميل إلى الدعابات والخدع ويحتفظ في بيته بمهرج وقرد وكثير من الحيوانات المدللة الصغيرة، وكان زوجاً مخلصاً وأباً محباً يعبد أولاده وخطيباً مقنعاً ومستشاراً أصيل الرأي ورجلاً شديد الحرص على البر وخدمات الأصدقاء.
ومارس مور بعد حصوله على شهادات عليا في القانون مهنة المحاماة. وبعد فترة قصيرة من العمل في المحاماة، قرر الانسحاب من العالم وتكريس حياته للتأمل والصلاة وخدمة الله، والتحق بأحد أديرة الآباء الفرنسيسكان، لكنه بعد مضى أربع سنوات في الرهبنة، فضل الحياة الزوجية على التبتل.. وتزوج مرتين لوفاة زوجته الأولى وأنجب أريعة أبناء أنشأهم على حب الله واحترام النظام العام..
تأثر للغاية بالفترة القصيرة نسبياً التي قضاءها في الدير، فعلى الرغم من انتقاده الرهبان لتقاعسهم عن الامتثال لما يفرضه عليهم النذور الرهبانية فإنه أعجب إعجاباً شديداً بحياة النظام في الدير وحياة الزهد والتقشف. وظل وقتاً طويلاً بعد خروجه من الدير يرتدي قميصاً من شعر الخيل لا يرتدي تحته شيئاً، وكان بين آن وآخر يسحب منه دماً يكفي لتلطيخ ثيابه ببقع من الدماء .
أنتخب وهو في السادسة والعشرين من عمره في العام 1504م نائبا في مجلس العموم (البرلمان) عن مدينة لندن. وفي عام 1523 انتخب رئيساً لمجلس العموم، و منصب مساعد عمدة لندن، وتدرج سريعا حتى تقلد منصب قاضي القضاة (وزير العدل) في إنجلترا بين عامي 1529-1532م.
وتميز مور طوال فترة عمله إلى لحظة وفاته، بالالتزام العميق بالعقيدة الكاثوليكية، والمبادىْ الاشتراكية الإنسانية ، وولاؤه للعرش الإنجليزي.
المعمدان يعود من جديد"
هناك ثمه تشابه كبير بين توماس مور والنبي يوحنا المعمدان، فكلاهما عاش حياة الزهد، والشهادة للحق وخدمة العدالة، ودفع الثمن غالياً بالسجن وقطع رأسه.
ولما كان الملك هنرى الثامن يرغب في الحصول على بطلان زواج من زوجته بعد أن أخفقت في إنجاب وريث ذكر للعرش. طالب من البابا كليمنت السابع إبطال زواجه (الطلاق)، والسماح له بالزواج مرة ثانية. وكانت سلطة البابا في منح مثل هذا البطلان أمر جائز بوجه عام، كإجراء تحكمه تلبية الضرورات، وفى ذلك كانت ثمة سوابق كثيرة. بيد أن البابا كان لديه أكثر من سبب لعدم إقرار بطلان ذلك الزواج.
لكن الملك لم يستسلم لذلك. وقرر الخروج عن طاعه البابا كليمنت السابع، والانفصال بالكنيسة الإنجليزية عن سلطة الكرسي الرسولي. وطلب من تمور بصفته رئيس مجلس العموم إعلان طلاق الملك من زوجته في البرلمان، وبالفعل أعلن ذلك ، لكنه رفض التوقيع للتصديق عليه ، وأداء القسم على قانون أصدره هنرى الثامن ، يمنح الملك والملوك اللاحقين السيادة الملكية على الكنيسة الإنجليزية (الأنجليكانية) والمعمول به حتى يومنا ، والاعتراف بالملك هنري الثامن رئيساً روحياً للكنيسة الإنجليزية، ( وهو السبب المباشر لانفصال الكنيسة الإنجليزية الانجيليكانية عن الكنيسة الكاثوليكية). لكون القرارات مخالفة لله ووحدة الكنيسة التي أوصى بها المسيح وحذر أتباعه من الانشقاق.
وامام إصرار مور على موقفه، أمر الملك بالقائه في سحن برج لندن الرهيب، وتعذيبه عذابًا شديدًا. وأثناء وجوده في الحبس ، أرسلت له ابنته الأثيرة، مرجريت رسالة ترجوه فيها أن يحلف اليمين، فرد عليها بأن توسلها سبب له ألماً أشد مما سببه له سجنه. وبذلت محاولات أخرى لزحزحته عن موقفه، بيد أنه قاومها كلها بابتسامة. وواسى نفسه في السجن بتأليف كتاب حمل اسم "حوار الراحة ضد المحنة"، وعندما نجح الملك في إجبار رجال الدين الانجليز، على ما يريده، أصدر أمره بإعدام توماس مور، وهو في السابعة والخمسين من عمر، بعد محاكمة هزلية. وعلى مثال يوحنا المعمدان الذي صاح في وجه الملك هيرودس الملك اليهودي زمن المسيح " لايحق لك أن تأخذ هيروديا أمرة أخيك زوجة لك"رفض مور الخضوع لاهواء الملك ومخالفة الله، فقطعت رأس مور بأمر الملك بالمقصلة في 6 يوليو 1535. وكانت الكلمات الأخيرة التي نطق بها قبيل الركوع على ركبتيه استعداداً لضرب عنقه، "هأنذا أموت في سبيل الكنيسة، خادم الملك الأمين، ولكن خادم الله أولاً". وتلا المزمور الحادي والخمسين، ثم وضع رأسه على الكتلة، وسوى بعناية لحيته البيضاء الطويلة، حتى لا تتعرض لأي أذى وقال: "مما يؤسف له أنها سوف تقطع، وأنها لم ترتكب جريمة خيانة الدولة ، وعلقت رأسه على جسر لندن عيرة للاخرين.
ولقد أثار إعدام توماس مور ضجة هائلة، واستنكارا ُشديداً ا في أوروبا ضد الملك هنري الثامن. العجيب أنه بعد ثلاث سنوات من زواج الملك من من آن بولين (الذى بسببه إنفصلت الكنيسة الإنجليزية) زهد فيها ولفّق لها تهمة الخيانة الزوجية، ثَمَّ أعدمها وتزوج أربعة زيجات أخرى.
وبعد أربعمائة عام على إعدام مورمور، أعلن للبابا بيوس الحادي عشر في مايو 1935م رفع توماس مور «قديساً» في الكنيسة الكاثوليكية تقديراً لطاعته لله ولدفاعه عن العقيدة الكاثوليكية.