صلاح الغزالي حرب
سعدنا وتفاءلنا جميعًا عندما أعلن الرئيس السيسى عن انحسار موجة الإرهاب العاتية عن أرض الكنانة بفضل الله أولًا ثم بفضل تضحيات رجال الجيش والشرطة ومَن معهم من المدنيين.. ولكن يبقى السؤال معلقا: وماذا عن جذور هذا الإرهاب التي عششت في رؤوس الكثير من أبنائنا متدثرة برداء الإسلام وهو منها براء، والتى تعيش بيننا محملة بالكثير من الأفكار المغلوطة التي تبارك هذا الإرهاب وتعتبره جهادًا في سبيل الله ودفاعًا عن الإسلام؟.. وللإجابة عن هذا السؤال ينبغى أولا أن نلقى الضوء على تاريخ هذا الفكر المتطرف في بلادنا.
للإرهاب جذور عميقة في مصر، وبشكل عام يمكن اعتبار مصر المنبع الأول للحركات الإسلامية السياسية التي تقف وراء هذا الإرهاب وتستخدمه لتنفيذ أهدافها السياسية، وهو ما يعرف في الغرب باسم «الإرهاب الإسلامى».. وقد مرت علينا عدة موجات إرهابية برعاية جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في الإسماعيلية برئاسة الساعاتى حسن البنا عام 1928 كجمعية دينية تهدف إلى التمسك بالدين وأخلاقياته، ثم انتقل نشاطها إلى القاهرة في عام 1933، ولم تبدأ نشاطها السياسى إلا في عام 1938، وفى نفس الوقت تم تأسيس جناح شبه عسكرى- وهو الجهاز السرى الخاص بهم- بهدف محاربة الإنجليز والمشاركة في حملات التفجيرات والاغتيالات، واتُهمت باغتيال رئيس الوزراء المصرى آنذاك محمود النقراشى باشا.. وكانت هذه هي بداية الموجة الأولى التي امتدت فيما بعد ثورة 23 يوليو 1952، حيث حاولوا اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر في عام 1954، ثم ظهر الفكر الجهادى لهذه الجماعات الإرهابية متأثرين بفكر الإخوانى المتشدد سيد قطب، الذي أُعدم في 1967 ثم جاءت الموجة الثانية فيما بين 1974- 2011 حين اقتحمت منظمة التحرير الإسلامى مستودع الكلية الفنية العسكرية.
كما قتلت مجموعة التكفير والهجرة وزير الأوقاف السابق د. محمد الذهبى عام 1977، ثم بدأت عمليات تفجير الكنائس وإرهاب السياح وقتلهم، حتى وصل الأمر إلى اغتيال رئيس الدولة الرئيس السادات في عام 1981 في ذكرى انتصار أكتوبر المجيد على يد الجماعة الإرهابية الخبيثة التي فتح لها الرئيس الراحل أبواب الحوار والمهادنة، حتى جاءت الموجة الأعنف الثالثة من يوليو 2013 حتى سبتمبر 2019 باستغلال حالة الانفلات الأمنى، وسقط فيها الآلاف من رجال الجيش والشرطة والمدنيين، وحظيت شمال سيناء بنصيب الأسد من هذه العمليات الغادرة.
نخلص من هذا التاريخ الأسود إلى أن جذور كل الجماعات الإرهابية بشتى مسمياتها ترجع إلى جماعة الإخوان المتأسلمة، التي وضع لها مؤسسها حسن البنا عشرة أركان للبيعة في رسالته الشهيرة (التعاليم)، والتى تعد أخطر رسائله؛ وتشمل: (الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة).. وعن الركن الأول وهو الفهم، يقول البنا: (إنما أريد بالفهم أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإنسان كما نفهمه (؟!) في حدود الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز). وهذه تعتبر من أخطر مقولات البنا على الإطلاق، والتى يصادر فيها أي رأى آخر، وكأنه يتمثل ما ورد في الآية الكريمة: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) كما يقول في رسالته عن تعليماته لأعضاء الجماعة إلى (الأخ المسلم !) (هى ليست دروسًا تُحفظ ولكنها تعليمات تنفذ)، وهو ما يُظهِر بوضوح مدى النظرة الاستعلائية الواضحة التي ينضح بها تقسيم البنا للمسلمين إلى: «إخوان» و«غير إخوان»، وكأنه لم يسمع بقوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
خلاصة الأمر؛ أن عقول أفراد هذه الجماعات الإرهابية بشتى مسمياتها وكل المتعاطفين معها قد أصبحت مغلقة وغير قادرة على التفكير والتدبر الذي أمرنا به (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).. وأصبحت حبيسة الأوهام والضلالات والخرافات والتفسيرات الشاذة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ولا سبيل أمامنا كى نتقى شرورها ونجفف منابعها ونحمى شبابنا إلا بنشر الفكر الوسطى المتزن والمتفق مع مقاصد الشريعة السمحاء في كل ربوع الوطن، وخاصة في الريف والصعيد.. وهذا يتطلب الآتى:
1) دور المؤسسة الدينية (الأزهر الشريف)
تتحمل هذه المؤسسة دورا رئيسا في تجديد الخطاب الدينى وتنقيته من الشوائب التي عفا عليها الزمن، وقد اتخذت بالفعل بعض الخطوات المهمة، ومنها إصلاح وتطوير المناهج الأزهرية وتنقيتها مما لا يتناسب مع الواقع المعاصر، وإنشاء بيت العائلة المصرية ومرصد الأزهر ومراكز الحوار والترجمة، وإنشاء أكاديمية لتدريب الأئمة والوعاظ وتجديد وتطوير مجمع البحوث الإسلامية، وغيرها.. لكن مع تقديرى لمجهودات د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في هذا المضمار إلا أن التيار السلفى المتشدد يتحرك بسرعة في الاتجاه الآخر، مسيطرا على عقول الغافلين بعيدا عن الأزهر، ويتطلب الأمر من المؤسسة الدينية الأكبر في مصر أن تتخذ كل ما يلزم لتنقية الإسلام من هذا العبث، وعليها أن تعلن بكل وضوح أن الإسلام لا يعرف التحزب والتشرذم والانقسام، فالمسلم بطبعه يحترم ويجل السلف الصالح، ولكنه لا يقدسه.. ويعلم جيدا أنه مطالب بتعمير الأرض وإعمال العقل (إنَّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون).. وقد وردت كلمة «يتفكرون» في القرآن 10 مرات، وكلمة «لعلهم يتفكرون» 3 مرات، وكلمة «يعقلون» 22 مرة.. ولكن هذا الفكر المريض يشجع على تقديس الماضى وإهمال العقل، وهو ما أدى إلى ما وصل إليه المسلمون في عالم اليوم.. وللأسف الشديد، فإن بداية هذا التيار في مصر كانت على يد الشيخ محمد حامد الفقى، الحاصل على العالمية من الأزهر، وأنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية، وهم يرون أن الديمقراطية نظام كافر؛ لأنه يعطى الإنسان حق التشريع الذي هو حق خالص لله.. وغيرها من الآراء الشاذة.. كما أن السلفية الوهابية تسللت إلى بلادنا في سبعينيات القرن الماضى بعد أن أعطى الرئيس السادات الفرصة للإخوان لضرب اليسار، وتدفق المصريون إلى الجزيرة العربية وعادوا مشبعين بالفكر الصحراوى المتجمد.. ومن هنا أطالب الأزهر بوقفة حاسمة تؤكد سماحة الإسلام وتنقّى الأزهر الشريف من كل العناصر المتشددة، فهناك بالفعل بعض هذه العناصر المتدثرة بـ«فكر التقية»، والتى يجب ألا يكون لها مكان بالجامعة الأزهرية، كما يتحتم الاهتمام بالنماذج المتميزة التي تؤكد سماحة الإسلام ورفض التحزب ورفع راية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وكذا (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، والتى تؤكد بكل وضوح أنه لا كهانة في الإسلام، وأن الله سبحانه وتعالى ألزم كل إنسان طائره- أي عمله- في عنقه.. ومن أمثال هؤلاء د. سعد الهلالى ود. محمد المنسى والشيخ أحمد تركى.. وغيرهم ممن يجب أن يقودوا مسيرة تغيير وتحديث الخطاب الدينى.
2) دور مؤسسات الدولة
يجب على الدولة أن تعلن بكل وضوح أن مصر دولة مدنية وليست دينية.. فالدولة- أي دولة- لا دين لها، فالدين لله والوطن للجميع، والتشديد على حرية العقيدة وحرية العبادة وعدم التدخل في الحرية الشخصية (لكم دينكم ولى دين) وتطبيق القانون على الجميع.. ومن ناحية أخرى، مطلوب وضع حد لفضيحة الأمية الأبجدية التي من المفترض الإعلان عن أن خلو مصر منها يكون بحلول عام 2030.. وأتمنى أن يتم ذلك قبل هذا الموعد، بعد تكثيف الدولة جهودها ضمن مبادرة حياة كريمة، فلا أمل في أي إصلاح بغير التخلص من هذه الأمية التي تمثل الوعاء الصالح للأفكار الشاذة المتطرفة.. وعلى وزارة الثقافة أن تعيد الأضواء في كل مراكز الثقافة، في كل قرية، في جميع المحافظات، مع اكتشاف المواهب في شتى الفروع.. وعلى وزارة الأوقاف أن تفرض قبضتها على المساجد الصغيرة والزوايا في ريف وصعيد مصر واستبعاد كل المنتمين للفكر السلفى المتشدد، مع الرقابة الجدية من مديرى الأوقاف، وبخاصة في محافظة الإسكندرية.. وعلى الإعلام أن يعيد النظر في كل البرامج الدينية التي يجب أن تكون موجهة لإصلاح المجتمع وإعلاء القيم والمبادئ والأخلاقيات في المقام الأول.. ويبقى أخيرًا، أن أطالب بمراجعة بعض الظواهر المريضة والمؤلمة التي تسىء إلى مصر وإلى الإسلام الحقيقى؛ ومنها التحيز الدينى عند اختيار اللاعبين في مجالات الرياضة المختلفة واختيار القيادات الجامعية وكذا اختيارات الفنانين في المجالات المختلفة، والتى بدأ الرئيس السيسى بقوة تغيير هذه الظواهر المرضية.
أعلم يقينا أنها مهمة صعبة.. ولكن لابد من التكاتف من أجل مستقبل أفضل لمصرنا الحبيبة.
نقلا عن المصرى اليوم