عاطف بشاي
من دفتر ذكريات السينما المصرية، كتب الروائى الراحل «عبدالحميد جودة السحار» كتابًا صغيرًا شيقًا وطريفًا يحمل معانى ودلالات وإشارات مختلفة تعكس تطور مشوار السينما.. فيُحكى أنه كان منذ طفولته يعشق السينما ويشاهد الأفلام مع الأصدقاء في سينما الكلوب المصرى، وهى عبارة عن بدروم له باب دكان. وكانت السينما صامتة في كل بلاد العالم في ذلك الوقت، لذلك كانت تُكتب بعض الجمل على شريط الفيلم، فتقطع تسلسله لتوضيح الحدث المرئى أو استخدام حوار لابد منه، وكان أغلب جمهور السينما من الذين لا يعرفون الكتابة والقراءة، وكان «شحاتة»، مدير السينما، الذي يرتدى جلبابًا مخططًا، يقف بجوار الشاشة ويعلق على الأحداث الدائرة، فيقول مثلًا: «خلوا بالكم.. الشجيع ح يخرج من هنا.. انتبهوا للمقلب اللى ح يديه للحرامى.. البنت بتقول له: بحبك.. وهو بيقولها: وأنا باموت فيكى».
وكان إذا تسلل أحد الأشرار وراء البطل وحاول ضربه.. كان رواد السينما، ومنهم «جودة السحار»، يهتفون في جزع: «حاسب.. حاسب».
وقد حدث أن التفت البطل مرة إلى الشرير المتسلل خلفه وخطف منه المسدس.. فدوّت في القاعة عاصفة من التصفيق.. والمفارقة الضاحكة أن التصفيق كان سببه ليس لأن البطل نجا من شرير وقضى عليه.. بل لأن البطل استجاب لتحذيرهم.
ثم نطقت السينما واختفى «شحاتة».. شاعت في المجلات الفنية عبارات الترحيب البالغة بظهور السينما الناطقة.. وهل المهتمون بهذا الفن يؤكدون أننا مقبلون على آفاق جديدة وازدهار عظيم؟.. لكن «تشارلى تشابلن» هاجم بعنف تلك السينما الناطقة، وشنَّ عليها حملة شعواء، مؤكدًا أنها بداية انهيار فن التمثيل وموهبة الممثلين.. فالممثل هو ذلك القادر على التعبير عن معانى وأفكار وملامح الشخصيات وحركة الأحداث وتطورها من خلال الصورة، التي تبرز براعة انفعالات وجه الممثل، وقام «تشابلن» بإخراج أروع أفلامه الصامتة «البحث عن الذهب».. وأكد من خلاله أن السينما الناطقة سوف تفشل فشلًا ذريعًا.. وسوف تعود مرة ثانية السينما الصامتة.. وقد قوبل هجوم «تشابلن» بهجوم مضاد، فقيل إنه ضد السينما الناطقة لأن صوته قبيح.. ولأنه يخشى بناء على ذلك أن يأفل نجمه.
المفارقة الأخرى.. أنه بعد مرور سنوات طويلة على استقرار دعائم السينما الناطقة.. أن السينما المعاصرة قد عادت إلى تأكيدها أهمية الصورة باعتبار أن السينما فن مرئى.. ولابد من تقليص الحوار في الأفلام السينمائية، فاستخدامه للضرورة القصوى.. وفى السينما المصرية على سبيل المثال أفلام مثل «زوجتى والكلب» للمخرج الكبير «سعيد مرزوق».. و«المومياء» للعظيم «شادى عبدالسلام».. والمدهش أن تلك الأفلام لم تنجح جماهيريًّا.. وقد سمعت بنفسى وأنا أشاهدها صيحات الاستهجان والاستياء من المشاهدين، وقد مزح بعضهم:
- فين الكلام؟.
- إمتى الممثلين حاينطقوا؟.
- هه خرس ولا إيه؟!.
■ ■ ■
يتحدث «عبدالحميد جودة السحار» أيضًا في كتابه عن درس تعلمه من تجربة إنتاجه فيلمًا سينمائيًّا مؤكدًا أن الكتاب أطول نفَسًا من الفيلم، فالكتاب الذي لا يُباع اليوم يمكن أن ينتظر حتى ينتبه إليه القراء والنقاد ويدركوا قيمته وأهميته.. أما الفيلم السينمائى فعمره يُقاس بالسنة الأولى من عرضه، فإذا لم يغطِّ تكاليفه في تلك الفترة فالسلام على ما ضاع فيه من أموال، ولن يفيده مديح النقاد أو جوائز التشجيع والتفوق بعد فوات الأوان.. إنها أوسمة تُعلق على جسد ميت، فالكتاب سلحفاة تسير في تؤدة واتزان وتعبر الأجيال، أما الفيلم فيتوهج بسرعة وما أسرع ما يحترق.. إنه وردة قصيرة العمر.. أو فقاعة صابون، والمناسبة كانت في مشاركته في إنتاج فيلم «درب المهابيل» إخراج «توفيق صالح»، الذي اصر أن يكتب «السحار» حوار الفيلم، ومع ذلك كان يشطب الكثير من جمل الحوار دون إذن «السحار»، ويجبره على إعادة الكتابة أكثر من مرة، وكان يشكوه للأصدقاء بأنه يحاول أن يُطعِّم الحوار بين شخصيات السيناريو في الحارة بالنكات.. وكأن الحارة لابد أن يكون شخوصها متجهمين وإلا خُدشت كرامتهم.. وطلب المخرج «توفيق صالح»، رغم ضعف الميزانية، أن تُبنى الحارة في فناء استوديو الأهرام، وأصر على وجود 24 دراجة في دكان العجلاتى سواء كان التصوير في الدكان أو بعيدًا عنه، وقال له «السحار»: ألَا يجوز أن تكون بعض الدراجات قد أُجِّرت؟.. فرفض هذا العرض، وتم تأجير 24 دراجة طوال أيام التصوير، وكان بطل الفيلم ترافقه معزة، واستمر التصوير 6 أشهر، فحملت المعزة، فاضطروا إلى الاستعانة بدوبلير لها في المشاهد الأخيرة.
يقول «السحار»: كنا قد عزمنا أن نُنهى الفيلم دون أن نلجأ إلى أموال الموزعين، وأنفقنا أحد عشر ألف جنيه، ولكن نظرًا لطول مدة التصوير، فقد نفد المبلغ وبقيت بعض المشاهد دون تصوير.
المهم انتهى تصوير الفيلم، وعُرض في سينما «ريفولى»، وانهال عليه النقاد هجومًا وتجريحًا، وكتب «يوسف السباعى» مقالًا يقتر سخرية، قال فيه إن «المهابيل وراء الكاميرا».
وأعرض الجمهور عن الفيلم، وضاعت أموال الشركاء، وأقسم «جودة السحار» ألّا يعمل بعدها في السينما أبدًا، فقد كانت تجربة فيلم «درب المهابيل» أقسى تجربة مرت عليه في حياته.
نقلا عن المصرى اليوم