زاهي حواس
عرضت قناة نتفليكس الـ(برومو) التشويقى لفيلمها أو مسلسلها (أربع حلقات) عن الملكة كليوباترا منذ أسابيع قليلة، وبالفعل تم عرض العمل منذ أيام قليلة ماضية، ومن خلال ما شاهدناه وجدنا أن الممثلة التي تلعب دور الملكة كليوباترا من ذوات البشرة السوداء. وبداية نؤكد أننا لسنا ضد أصحاب البشرة السوداء على الإطلاق، لكننا بالطبع ضد هذا التزييف للحقائق التاريخية التي تؤكد أن كليوباترا- مثلها مثل باقى الملكات والأميرات المقدونيات- لم تكن من أصحاب البشرة السوداء.
وإذا نظرنا إلى تماثيل كليوباترا، وكذلك صورها على العملات المكتشفة باسمها سنجد أنه لا وجود لملامح أو مظاهر تشير إلى كون بشرتها سمراء. والمعروف تاريخيا أن الملكة كليوباترا هي ابنة الملك بطليموس الثانى عشر، وأمها كانت أخت شقيقة لأبيها بطليموس الثانى عشر حسبما تشير إليه الأدلة التاريخية، وكليوباترا هي آخر ملكة للسلالة البطلمية التي حكمت مصر بعد موت الإسكندر الأكبر في عام ٣٢٣ ق. م، واستمرت إلى أن أصبحت مصر ولاية رومانية في ٣٠ ق. م.
من أهم المناظر التي يمكن أن نشاهد فيها الملكة كليوباترا ذلك المنظر الذي يمثلها رفقة ابنها بطليموس قيصر (قيصرون)، ولا نجد في شكلها ما يوحى إلى كونها سمراء أو سوداء البشرة. وهنا يجب أن نتساءل: لماذا يظهر هذا المسلسل الآن؟ وبدايةً يجب أن نعلم أن هناك حملة تزييف موجهة حاليا من خلال الأمريكان السود، وكذلك من بعض دول أمريكا الجنوبية في محاولة لإثبات أنهم أصل الحضارة المصرية القديمة! وهذا تزييف فاضح لعدم وجود أي دليل يؤيد ذلك، بل العكس هو الصحيح.
هناك العديد من المناظر الممثلة على جدران المعابد والتى تظهر الملك المصرى وهو يضرب الأعداء وأمامه أسرى من شعوب مختلفة منهم الإفريقى والليبى والآسيوى، واستطاع الفنان المصرى القديم التعبير عن السمات والصفات التشريحية لكل من هذه الأجناس المختلفة والتى تختلف عن صفات وملامح الملك المصرى والمصريين المصورين بالمنظر من جنود وضباط. هذا ويوجد لدينا منظر ممثل داخل مقبرة الملك رمسيس الثانى يصور الساعة السادسة من كتاب البوابات وهو أحد كتب العالم الآخر التي تشرح طريق الملك المتوفى عبر بوابات العالم الآخر. وفى المنظر المصور نرى الإله حورس وأمامه أربعة أشخاص مصريين وأربعة أشخاص ليبيين وأربعة آخرون أفارقة ومثلهم من الآسيويين، ولكل من هذه الأجناس الأربعة المختلفة ملامحهم وصفاتهم الجسمانية المميزة وقد لونت أجساد الأفارقة فقط في هذا المنظر، دون المصريين والليبيين والآسيويين، باللون الأسود.
وإذا نظرنا إلى الأحداث الحالية نجد أن هناك تحركا نشطا في محاولة طمس الحقائق وإعلان أن الشعب المصرى القديم كان من الجنس الأسود!، وقد سمعنا أن الممثل الأمريكى الكوميدى كيفين هارت كان يستعد للمجىء إلى مصر لعمل حفل كبير يتضمن بعض الفقرات التي يحاول فيها أن يثبت أن أصل الحضارة المصرية القديمة سوداء!، وللأسف الشديد تم إلغاء هذا الحفل رغم أننى كنت أود أن يقام الحفل ويحضره علماء المصريات للرد عليه أمام العالم كله، وبالتالى نستفيد من حضوره وإظهار الحقائق للعالم كله.
وقد كنت في زيارة للبرازيل ووجدت أنهم يقيمون كل عام كرنفالا عبارة عن موكب احتفالى ضخم يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات، وفيه نرى الفرعون المصرى باللون الأسود وبجواره الملكة وأمامهم الأمراء وجموع الشعب والفنانين، وغيرهم باللون الأسود وتدق الطبول والجميع يرقص مبتهجا. إنهم يعتقدون أنهم أصل الحضارة الفرعونية، والحقيقة التاريخية هي أن مملكة كوش (فى السودان حاليا) حكمت مصر في الأسرة الخامسة والعشرين، بعد أن وصلت أنباء إلى بعنخى ملك نباتا عاصمة مملكة كوش بأن الملك تاف- نخت يتجه من الدلتا نحو الصعيد، وتحرك بعنخى إلى الشمال لتأييد الإله أمون وكهنته، وبالفعل وصل بعنخى إلى طيبة وأصبح سيد مصر والسودان. ومن ملوك هذه الأسرة نشاهد الملك طهرقا الذي فضل أن يقيم في صان الحجر في الشمال. هذه الأسرة لم تضف شيئا للحضارة المصرية القديمة التي كانت قد ولدت قبل آلاف السنين، قضاها فراعنتها العظام في البناء والتشييد ووصلوا إلى أعلى درجات العلم والفن والعمارة، بل العكس حاول ملوك مملكة كوش التمصر فقلدوا الفراعنة في كل شىء حتى مقابرهم ومعابدهم في كوش ومروى اتخذت الطراز المصرى.
وقد حدث أن سافرت إلى مدينة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء محاضرة في قاعة إرفين والتى تتسع لحوالى ٣ آلاف شخص، وقبل المحاضرة وفى الصباح استضافتنى محطة تليفزيونية في المدينة لكى أتحدث عن أصل المصريين القدماء، وقلت، بناء على العلم والأدلة الأثرية، هناك ثلاثة آراء خاصة بأصل المصريين، الأول هو أن المصريين القدماء أصلهم سامى وحامى، والجنس السامى هم أصل الجزيرة العربية وفلسطين والجنس الحامى هو الذي استقر بإفريقيا، وقد دلل أصحاب هذا الرأى على تشابه المصريين الحاليين في الدلتا مع الجنس السامى، وكذلك المصريون في الصعيد مع الجنس الحامى، وأشاروا أيضا إلى أن اللغة العبرية واللغة العربية قد استمدت جذورها من اللغة المصرية القديمة، وأن هناك بعض اللغات في إفريقيا التي استمدت جذورها من اللغة المصرية القديمة.
والرأى الثانى أشار إليه الشيخ آنتا ديوب، وهو من السنغال، وأعلن أن أصل الحضارة المصرية القديمة سوداء! ودلل على ذلك بأن هناك تماثيل للملك توت عنخ آمون والملك رمسيس الثانى ملونة باللون الأسود. وقد اهتمت منظمة اليونسكو بهذا الرأى وعقدت مؤتمرات وندوات بل ونشر مجلد عن هذه الآراء والتى انتهت بأن هذا الرأى لا يستند إلى أي أدلة علمية تثبت أن الحضارة المصرية القديمة سوداء. أما الرأى الثالث: فقد أعلنه سير فلندرز بترى الملقب بـ «أبوالمصريات» الذي قام بالكشف عن جبانة تعود إلى عصر ما قبل الأسرات، وقال إن الذين دفنوا في هذه الجبانة هم أصل هذه الحضارة أي أن أصل المصريين هم المصريون أنفسهم.
إن الحضارة المصرية القديمة قامت على ضفاف النيل في مصر فقط دون غيرها، ولم يظهر لها مثيلا في إفريقيا أو آسيا. آمن المصريون القدماء بالبعث والحساب في العالم الآخر ولذلك بنوا الأهرامات والمقابر التي سوف تخلدهم. وأنا دائما أقول إن الاعتقاد في العالم الآخر هو الذي بنى مصر. ولقد وجد المصريون القدماء أن لديهم في مصر كل ما يمكن استغلاله في بناء حضارتهم من أحجار لينة وصلدة ومعادن نفيسة ونصف نفيسة وتنوع في الثروات الطبيعية لا مثيل له في العالم القديم. ولكل ما تقدم فأنا من أنصار الرأى الأخير القائل بأن المصريين أصلهم مصريون.
أما بالنسبة لموضوع الهيكل العظمى الذي يعود تاريخه إلى حوالى ٣٥ ألف سنه أو حتى ٥٥ ألف سنة باعتباره أقدم هيكل عظمى لشاب مصرى، فقد عثر على الهيكل العظمى في عزبة نازلة خاطر، وهى قرية تقع على بعد ١٢ كيلومترا من مدينة طهطا بمحافظة سوهاج. وقد كشفت عن هذا الهيكل البعثة البلجيكية التي تعمل هناك منذ عام ١٩٨٠. وهو معروض حاليا في متحف الحضارة. ولقد قامت البعثة البلجيكية بدراسة العظام وكشفت عن الكثير من الحقائق عن البيئة التي عاش فيها والتى تعود إلى العصر الحجرى القديم الأعلى، وكان يعمل في محجر لاستخراج الحصى والزلط الذي استخدم وقتها لصناعة الأدوات الحجرية من السكاكين والفؤوس والمكاشط.
وخرج علينا رون فيهاسى وباتريك سيال برأى وتصور لشكل إنسان نزلة خاطر وباعتباره شخصا أسود البشرة في محاولة لإعلان أن أصل الحضارة المصرية سوداء، وأعلنا أن هناك صلات قوية بين جنوب الصحراء وهيكل إنسان نزلة خاطر. وفى نزلة خاطر وإلى الجنوب الشرقى تم التنقيب أيضا عن فؤوس وشفرات ومدافن وأطراف من العصر الحجرى القديم العلوى ويرجع تاريخ الموقع حسب اختبارات كربون ١٤ المشع ما بين ٣٠٣٦٠ ق. م إلى ٣٥١٠٠ ق. م وقد تشير أوجه التشابه بين العينات الأوروبية والعصر الحجرى القديم الأعلى إلى وجود علاقة وثيقة بين عينة وادى النيل هذه والإنسان الأوروبى الحديث من العصر الحجرى القديم الأعلى.
وقد وجدت على الإنترنت إعلانا عن هذه الدراسة وصورة للهيكل العظمى من نزلة خاطر وإعادة بنائها على هيئة شاب أسود البشرة، مدعين أن أصول الحضارة الفرعونية يعود إلى العصر الحجرى القديم إلى أصحاب البشرة السوداء. وقد اتصلت بى قناة الحدث من الإمارات للتعليق على هذه الدراسة، وعلى الفور اتصلت بالصديق الدكتور أحمد غنيم، الرئيس التنفيذى لمتحف الحضارة، لمعرفة ما حدث مع الهيكل في المتحف؟، وهل تم عمل دراسات حديثة عليه كما تزعم الأخبار؟، وقد أكد لى أن هناك شخصين من البرازيل قاما بتصوير هذا الهيكل بكاميراتهما فقط، ومن خلال الصور زعما أنهما قاما بدراسة الهيكل!، وهذا بالطبع أمر مستحيل ولا يمت للعلم بصلة. وعندما طلبنى المذيع على الهواء مباشرة وقام بسرد كل المعلومات التي أعلنت عن هيكل إنسان نزلة خاطر شرحت له أن كل هذه المعلومات ليس لها أساس من الصحة.
هناك رأى يقول إننا يجب أن نتجاهل هذه الموضوعات وعدم الرد عليها!، وقد يكون هذا الرأى صحيحا إذا كانت المسألة مجرد إعلان عن رأى عابر، لكن الحقيقة أن هناك خطة واضحة وتحركات ممنهجة لتزييف التاريخ المصرى وصبغ الحضارة المصرية القديمة بالصبغة السوداء دون الحقيقة. ونؤكد مرة أخرى أننا لسنا هنا مع لون بشرة ضد لون آخر، فلو كان العكس صحيحا لدافعنا أيضا عن الحقيقة التاريخية ووقفنا ضد تزييف التاريخ.
إن منصة نتفليكس يشاهدها ملايين الناس حول العالم، وكان لابد من وقفة ضدها. وقد أرسل لى كيرتس راين، وهو منتج تليفزيونى، سجل معى برنامجا عن أسرار الأهرامات شاهده ٣٥٠ ألف شخص على الـ«يوتيوب» إلى الآن، أنه منزعج للغاية مما فعلته نتفليكس، لذلك سوف يقوم بعمل فيلم عن كليوباترا للرد على مسلسل نتفليكس، وسوف يقوم بالتسجيل معى عبر تطبيق زووم ليكون ردا قويا. وأخيرا لى مطلب عند الفريق محمد عباس، وزير الطيران، حيث يوجد أمام إحدى بوابات مصر للطيران في الصالة ٣ تمثال للملك تحتمس الثالث باللون الأسود، وآخر للملك منكاورع داخل الصالة أيضا باللون الأسود، وكأننا نقول للقادمين إلى مصر إن حضارتنا سوداء وهناك نماذج لتماثيل أخرى من أحجار أخرى كالحجر الجيرى والألباستر وغيرهما يمكن أن تزين أيضا مطاراتنا إلى جانب ما هو موجود بالفعل حتى لا يصير لون الحجر صفة للون الحضارة.
لقد استاء المصريون من محاولة نتفليكس تزييف التاريخ والحضارة المصرية، ولقد سعدت جدا أن أجد شابا مصريا لايزال طالبا في الثانوية العامة يقوم بعمل فيلم وثائقى بمجهوده الشخصى وعلى قناته الخاصة على الـ«يوتيوب»، وقد حضر بكاميرته الخاصة للتسجيل. الغريب في الأمر أن شبكة نتفليكس، وبدلا من تصحيح خطئها بالإعلان أن مسلسلها عن الملكة عمل وثائقى، قامت فقط بالتنويه بعد حملة الغضب بأنه وثائقى درامى!!، وبالطبع هذا يؤكد أنها مازالت مصرة على تزييف حضارتنا.
نقلا عن المصرى اليوم