فاطمة ناعوت
دعونى أطرح معكم السؤالَ الوجودىّ الأشهر الذي حيّر الفلاسفة على مرّ الأزمان، دون أن يُفضُّ لغزُه، لأنه سرُّ الخلق وعبقريةُ يد الله القدير الذي جعلنا نتشابه في التشريح الجسمانى، ونختلفُ في الطباع والفكر والسلوك وردود الفعل، ونتباين في أساليب رسم أحلامنا وطرائق تحقيقها. لماذا نختلفُ عن بعضنا البعض كبشرٍ، كلَّ هذا الاختلاف، فنخلقُ باختلافنا تلك السيمفونية البشرية المتنوعة؟ ولو تشابهنا لانعدم جمالُ الحياة وانتهى سرُّها وانفضّ سحرُها منذ قديم الأزمان؟. لماذا بعضُنا ناجحٌ في حياته، وبعضنا يمشى في ركب الإخفاق والفَلَس؟ لماذا بعضُنا محبوبٌ وبعضنا ينفرُ الناسُ منه؟ هل هي أحكامٌ قَدَريةٌ، مكتوبةٌ على جباهنا، حيث لا مهرب، أم أننا المسؤولون عن هذا، لأننا ببساطة نقف وراء الأسباب، ونحن صانعوها؟.
الإجابة الحاسمة: نعم! نحن مَن اخترنا أن نكون ناجحين أو فاشلين، محبوبين أو مُنفّرين، روّادًا في مقدمة الصفوف، أو مغمورين في ثنايا الظلّ. السرُّ يكمن في أسلوب عمل عقولنا، إذ هو الذي يحدّد شخصياتنا.
في كتابه: «ستُّ قبعاتٍ للتفكير»، يحدّثنا «إدوارد دى بونو» Edward de Bono، الطبيبُ وعالم النفس المالطى المتخصص في تأهيل الدماغ البشرى وأحد مؤسسى «مدرسة التفكير» «School of Thinking»، قائلا: إننا لا نتمايز عن بعضنا البعض في تركيب عقولنا، بل في آلية عمل تلك العقول. وحدد أساليبَ ستةً مختلفة للتفكير البشرىّ، ينهج كلٌّ منها نهجًا مُغايرًا يؤدى، بالضرورة، إلى نتائج مختلفة. وأعطى «دى بونو» لكل أسلوبٍ سماتٍ محددةً، تجمع، تقريبًا، جميعَ طرائق تفكير العقل الإنسانى. واعتبر «دى بونو» كلَّ أسلوب من الأساليب الستة، بمثابة «قُبّعة» يرتديها المرءُ حينما يفكر في أمرٍ ما. فيكون لدينا قبّعاتٌ ستٌّ، ذات ألوان مختلفة.
- القبعةُ الحمراء، تمثّل التفكير العاطفى. فصاحبُ هذه القبعة يُسقط مشاعرَه، الإيجابية والسلبية، على الأمور، فلا يكونُ حكمُه محايدًا موضوعيًَا.
- القبعةُ البيضاء هي نقيضُ ما سبق. فصاحبها ينظرُ إلى الأمور من خلال الأرقام والحسابات والتحليل، فيخرج بنتيجة علمية موضوعية لا محلّ للعاطفة فيها، ولا مكان فيها للنظرة الشخصية. يشبه الحاسوبَ الذي لا يعطى نتائجَ إلا من خلال المعطيات والبيانات والأرقام التي أدخلتها في برنامجه.
- القبعةُ الصفراء، يتميز صاحبُها بالتفاؤل والإيجابية، حيث لا يرى إلا مزايا الأمر وأوجهه الإيجابية، غير مُنتبه، أو غير عابئ، بسلبياته.
- القبّعة السوداء، وصاحبها نقيضُ ما سبق. سوداوىّ متشائم لا يرى في الشىء إلا عيوبَه ونواقصه ومعوّقاته التي تُحيل دون إتمامه.
- القبعة الخضراء تقفز بصاحبها إلى خانة الإبداع والتحليق. من يرتديها لا يعرف التفكير النمطىّ التقليدى. بل يكسر الصندوقَ وينطلق صوب الخيال والابتكار، فيقترح زوايا جديدة للنظر، ويخترعُ طرائقَ جديدة للتأمل، تؤدى بالضرورة إلى نتائج مبتكرة، لا تخطر على بال سواه ممن يسيرون على قضبان المنطق والمحاكاة والتقليد.
- وأخيرًا القبعة الزرقاء، وهى المظلّة الواسعة التي توجّه وترسم مسار كل القبعات السابقة. من يعتمرها يمتلك نظرة شمولية تجعله يرى الأمور من منظور كُلّى واسع، ومنظّم كذلك. يرسمُ خُطّة العمل بدقّة، واضعًا الاستراتيجية العامة، والتكتيك التفصيلى لخطوات الأداء. يضع البرامج الزمنية ويُنصتُ إلى جميع الآراء من حوله، ليستفيد منها.
ويرى «دى بورنو» أن بإمكاننا تغيير قبعات تفكيرنا. فمن يظن أنه مجبولٌ على قبعة واحدة يرتديها مدى العمر، قد أخطأ مقصدَ الكتاب. فبوسع كلّ منّا أن يحوز القبعات الست مجتمعةً. يرتدى منها ما يشاء، ويهجر ما يشاء. المهم هو ترتيب وضع القبعات. فمن الأفضل استخدام القبعة البيضاء في بداية تحليل الأمر، ثم الصفراء والسوداء لتأمل المزايا والعيوب، ثم الانطلاق نحو القبعة الخضراء للقبض على جوهرة الابتكار، ثم الختام بالقبّعة الزرقاء، التي تعيد ترتيب الأوراق.
علينا إذن أن نُفكر في ألوان قبعات عقولنا، ونحن نفتح الأدراج والدواليب لنستخرج قبعات الرؤوس التي تحمى وجوهنا وأمخاخنا من وهج الشمس وهجير الحر، وتُسقط على صفحات جباهنا ظلالا مخاتلة حين تتسرّبُ خيوطُ الشمس من بين خيوط الخوص التي جدلت تلك القبعات، فترسمُ أشكالا فنية رائعة من الضوء والظلال، مع هذا الصيف المراوغ الذي يُطلُّ برأسه على استحياء، فتحاولُ الشمسُ أن تفضَّ غلالة البرد، ويقاتلُ البردُ من أجل البقاء بعض الوقت الإضافى، فيما عجلةُ الزمان ماضية تُجهضُ محاولاته مهما ناوشت. أهلا بالمصائف التي شرعت في فتح أبوابها للمصطافين، وجعلت الحقائبَ تهبطُ من فوق الدواليب وتفغرُ أفواهها لملابس البحر، وعلى رأسها القبعات.
كل عام والجميعُ في فرح بمعجزات ميلاد الربيع من الشتاء، وميلاد الصيف من الربيع، وبهجات البحر والبلاجات والشماسى ومضارب الراكيت، وقبعات الشواطئ، وقبعات العقول. وشكرًا لله تعالى على معجزة عظمى، اسمها: العقل والإرادة.
نقلا عن المصرى اليوم