( 1938- 2016 )

إعداد/ ماجد كامل
من بين آباء الكنيسة الكاثوليكية الذين لعبوا دورا كبيرا في  مد جسور المحبة والتفاهم  سواء في العلاقات المسيحية الإسلامية ؛ او العلاقات المسكونية بين الكنائس . كذلك في إثراء العمل الثقافي والاجتماعي ؛ يأتي ذكر الأب كريستيان فان نسبن ( 1938- 2016 )  كواحد من هؤلاء  ؛ اما عن الأب كريستيان فان نسبن ؛ فهو هولندي الأصل ؛ ولد في 15 مارس 1938 ؛ وتلقي تعلميه الأولي في مدرسة داخلية تابعة للرهبنة اليسوعية ؛ ثم قرر  أن يترهبن في نفس ذات الرهبنة في هولندا ؛ وكان ذلك خلال  عام 1955 ؛  وأشتاقت نفسه بعدها للسفر  إلي بلاد الشرق ؛ فسافر أولا إلي  إندونيسيا ؛ ثم توجه  إلي لبنان لتعلم اللغة العربية التي أتقنها تماما ( كنت شاهد عيان علي هذا الإتقان )

ثم قرر أن يرحل إلي مصر لدراسة الفلسفة في جامعة عين شمس ؛ وكان ذلك خلال  عام 1962 ؛ وبعد الليسانس ؛ وخلال عام 1966  سافر إلي فرنسا  وإلي جامعة  ليون   تحديدا  للحصول علي درجة الدكتوراة في موضوع "  مفهوم سنن  الله في تفسير القرآن ؛دراسة مقارنة بين الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا " تحت إشراف البروفيسر "روجيه أرنالديز "  . ثم عاد إلي مصر حيث عمل أستاذا للفلسفة في إكليركية المعادي للعلوم اللاهوتية والإنسانية؛ ثم كلف بتدريس مادة الإسلاميات  في   أحد المعاهد الكاثولكية التي يديرها الآباء الكمبونيون (  أحدي الرهبانيات الكاثوليكية ) . ولقد شارك الأب كريستيان في إعادة الروح إلي جماعة الأخاء الديني ( لنا عودة  تفصيليية إليها ) . كما شارك أيضا في أنشطة اللجنة المصرية للعدالة والسلام ( أحدي اللجان التابعة للكنيسة الكاثوليكية التي تدعو  إلي الحوار الوطني والمجتمعي ) . ولقد كان الأب كريستان عضوا فاعلا في العديد من الجمعيات والمؤسسات الثقافية نذكر منها ( الجمعية الفلسفية المصرية "أتيح لي فرصة التعرف الشخصي عليه من خلالها ؛ ولنا عودة لذكرياتي معه في نهاية المقالة " - المجلس الأعلي للثقافة لجنة  الفلسفة – عضو لجنة الفلسفة والديانات بمكتبة الإسكندرية ) .

ولقد شارك في ندوات الجمعية الفلسفية المصرية ؛ وفي ندوات المجلس الأعلي للثقافة ؛ كما تقارب مع  الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ؛ وكان مشاركا في كثير من أنشطة أسقفية الشباب من خلال "مجموعة التنمية الثقافية " و"مجموعة المشاركة الوطنية " ( للمرة الثانية كنت شاهد ومشارك في هذه اللقاءات ) .


ولقد كان الأب كريستيان فان نسبن ؛ يحب مصر وشعب مصر جدا ؛ وكان دائما ما يردد  كيف  أنه أرتبط بصداقة حميمية مع كثير من الأصدقاء المسلمين ؛ لعل من أشهرهم الدكتور محمود رجب أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ؛ الذي فتح له بيته منذ وطأت قدماه أرض مصر ؛ وكان والده الشيخ محمود العايدي بعامله  بيته كأنه فرد من أفراد العائلة .كما أرتبط بصداقة حميمية مع كثير من أساتذة الفلسفة في مصر   مثل ( الدكتور أبو الوفا التفتازاني – الدكتور حسن حنفي -  الدكتور عاطف العراقي .... الخ ) .  كما أتيحت له الفرصة للسفر إلي بلاد أخري كثيرة ؛ حيث سافر إلي الجزائر خلال عام 1977 بدعوة من مطران الجزائر لمدة ثلاثة أسابيع ؛ كما سافر إلي اندونيسا  عام 1979 تقريبا      . ولقد  كثرت عليه الأمراض في أيامه الأخيرة ؛ حيث عاني من الزهايمر ؛ وقرر العودة إلي هولندا  بلده الأصلي حيث أستقر هناك حتي توفي في يوم 12 مايو 2016 عن عمر  يناهز 78 عاما تقريبا .

ولقد  آمن الأب كريستيان  بأهمية الحوار والتلاقي بين المسيحين والمسلمين ؛ وفي هذا السياق كتب كتابا بالغ الأهمية بعنوان " مسيحيون ومسلمون  إخوة أمام الله " ترجمه  إلي اللغة العربية الأستاذ الدكتور أنور مغيث ؛ وقدمت له الأستاذة الدكتورة  زينب محمود الخضيري ؛  وصدر عن المجلس الاعلي للثقافة المشروع القومي للترجمة

 تحت رقم 1009 . وكان تاريخ الصدور 2006 . وفي هذا الكتاب وضع بعض الشروط والقواعد العامة للحوار يمكن تلخيصها في النقاط التالية :-

1-الحرية الداخلية :-
بمعني التجاوز عما يمكن  أن تتضمنه العلاقات الإسلامية – المسيحية من مواقف أنفعالية ؛ والتخلص من بعض الخبرات الداخلية المؤلمة السابقة .
2-معرفة الآخر جيدا

3-فهم السياق الثقافي والاجتماعي :-
من خلال الفصل بين ما يأتي  من الثقافة التقليدية عن الدين .
4-تجاوز  الخطاب المزدوج  والكلام المحفوظ المكرر .
5- حسن اختيار أطراف الحوار مع قبول المساءلة المتبادلة  والأعتراف بالغيرية .
وبلخص " مجدي سعيد " فكر الأب كريستيان نحو " الإخاء الديني " فيقول علي لسان الأب كريستيان " "كنا نسعي للتقارب علي أساس إيمان كل فرد منا بالهه ؛ليس للتقريب بين  الأديان ولكن للتقارب بيننا نحن أتباع  هذه الأديان ؛ إن المسلمين والمسيحين في مصر قريبون من بعضهم أحيانا ؛ وبعيدون في آن .... ... فليساعد إخاؤنا الديني علي أن نعيش اختلافنا بطريقة أفضل من خلال الاحترام المتبادل والصداقة " .

ويبقي لنا في النهاية تعريف سريع "جماعة الإخاء الديني " فلقد بدأت المبادرات الأولي لهذه الجماعة خلال عان 1941 ( وربما كانت توجد إرهاصات منذ عام 1938 ) حيث قام مجموعة من الشباب المصريين مسلمين ومسيحين بعقد اجتماع مغلق بهدف وضع قواعد مشتركة للتعايش الديني ؛ ولقد حدد المجتمعون  أهدافهم في النقاط التالية :-
1-إنماء روح التعاون والأخوة بواسطة الدين والعلم والفلسفة .
2-المساهمة في حل المشكلات الإجتماعية من وجهة نظر الأخلاق والدين .

ولقد أختارت المجموعة لنفسها أسم "جماعة إخوان  الصفا " ووضعت لنفسها لائحة داخلية ؛ ولكن بعد قيام ثورة يوليو 1952 ؛  تخوفت الحكومة الجديدة من مثل هذه الجماعات ؛لذا طالبت بحلها ؛ والشيء  الوحيد الذي أبقت عليه هو وجبة   إفطار سنوية في دير الآباء الدومنيكان بالموسكي .

وفي خلال عام 1975 ؛ دعت الأستاذة "ماري كحيل " ( 1889- 1979 )  الي عقد لقاء في منزلها ضم 15 شخصا ؛ أغلبهم ممن كانوا ما زالوا أحياء منذ تأسيس "جماعة الصفا " وتم الاعتراف بها كجماعة رسمية ؛ وسجلت بوزارة الشئون الإجتماعية تحت أسم "جماعة الإخاء الديني " في 16 أبريل 1978 .  وبدأت الجماعة في عقد لقاء شهري لها في كنيسة مريم سيدة السلام بجاردن سيتي ؛ ولقد دعت الجماعة نيافة الحبر الجليل  الأنبا غريغوريوس لإلقاء محاضرتين بالجمعية :-

1-المحاضرة الأولي كانت بعنوان " من نقاط التلاقي والإخاء بين المسيحية والإسلام .
2-المحاضرة الثانية كانت بعنوان " فلسفة الصوم " .

ونشكر الله ؛ فلقد  أتيح لكاتب هذه السطور حضور المحاضرتين ؛ كما حضرت محاضرات أخري كثيرة للعديد من القيادات الدينية المسيحية والإسلامية ؛ أيضا بعض القيادات الفكرية في مصر والعالم العربي . ( الأب كريستيان فان نسبن:-  مسيحيون ومسلمون إخوة أمام الله؛ المجلس الأعلي للثقافة ؛ المشروع القومي للترجمة ؛ الكتاب رقم  1009 ؛ الطبعة الأولي 2006 ؛     الصفحات من 49- 55 ) .

ويذكر الأستاذ الدكتور مراد وهبة في كتاب هام صدر له بعنوان "مسار فكر " خبرته مع جماعة الإخاء الديني ؛ فيؤكد ان الأب "جورج شحاتة قنواتي " دعاه إلي الانضمام إلي جماعة "أخوان الصفا "؛ وكان من بين أعضائها ( الأب هنري عيروط –الشيخ محمد يوسف موسي –  الدكتور عبد الرحمن بدوي – محمود الخضيري – الدكتور  عثمان أمين ) وكان الأب الروحي لهذه الجماعة المستشرق الفرنسي المعروف "لويس ماسينون " ( 1883- 1962 ) والذي يعتبره الكثيرون " الأب الروحي للحوار الإسلامي المسيحي " . ولكنه أعتذر عنها ؛ ثم جاء الرئيس جمال عبد الناصر  الذي أمر بحلها ؛ ولكنها عادت مرة أخري بقرار من الرئيس السادات تحت مسمي "جماعة الإخاء الديني " عام 1978 ( مراد وهبة :- مسار فكر سيرة ذاتية ؛الجزء الأول ؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب ؛ 2011 ؛ صفحتي 18 و19 ) .

أخيرا :- بعض الذكريات الشخصية لكاتب هذه السطور معه :-
لقد  أتيح لكاتب هذه السطور فرصة التعرف الشخصي علي أبونا كريستيان  من خلال تردده علي مجموعة  التنمية الثقافية بأسقفية الشباب ؛ وأيضا من خلال ندوات الجمعية الفلسفية المصرية ؛ ولجنة الفلسفة بالمجلس الأعلي للثقافة ؛ وجمعية الآخاء الديني  بكنيسة مريم سيدة السلام . وأذكر جيدا أني ذات يوم طلبت منه التعرف علي الرهبنة اليسوعية وجهود أغناطيوس دي ليولا ا Ignatius of Loyola ( 1491- 1556 ) في تأسيس الرهبنة اليسوعية ؛ كذلك جهود الأب لويس شيخو (1859- 1927 ) في تأسيس مجلة " المشرق " ، والدور الذي لعبته الرهبنة اليسوعية في تأسيس الجامعات الكبري في أوربا وبقية أنحاء العالم .  فطلب مني زيارته في مقر أقامته في مقر دير الآباء اليسوعيون بشارع البعثة بشبرا ؛ وفي  الزيارة قدم لي بعض الكتب الخاصة بتاريخ الرهبنة اليسوعية ؛ كذلك كتاب "الرياضات الروحية " لاغناطيوس دي لويلا ؛ كما شرح لي دور المدارس اليسوعية في نشاة وتطوير التعليم في مصر ؛ أذكر أيضا أنه اثناء  أحدي ندوات الجمعية الفلسفية في المؤتمر السنوي المنعقد بجامعة القاهرة ؛ قام أحد الأساتذة الحاضرين بالهجوم والسخرية علي العقيدة المسيحية ؛ فميل الأب كريستيان رأسه نحوي وهمس في أذني قائلا " هو أحنا جئنا إلي هنا لكي نشتم ؟! " ؛ ثم  قام بكتابة ورقة وقدمها إلي رئيس الجلسة ؛ وكان هو المرحوم الدكتور محمود حمدي زقزوق " ( 1933 – 2020 ) والذي شغل بعدها منصب "وزير الاوقاف " وكان محتوي الورقة " هل الجمعية الفلسفية المصرية هي المكان المناسب للطعن والتجريح في العقيدة المسيحية ؟! " فما كان من الدكتور حمدي زقزوق أن أبدي أسفه لأبونا كربيستان ؛ وأذكر  أيضا أنه في المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية المصرية ؛ وكانت بعنوان" نحو علم كلام جديد " قام المتنيح الأنبا غريغوريوس  يتقديم ورقة بعنوان " لاهوت مدرسة الإسكندرية " فكلف المرحوم الدكتور حسن حنفي ( 1935- 2021 ) مقرر المؤتمر ؛  الأب كريستيان بالتعقيب علي الورقة حيث أبدي  إعجابه الشديد بها . ولقد كنت أنبهر حقيقة من هذا الراهب الحاصل علي درجة الدكتوراة من أرقي جامعات فرنسا ؛ ويعمل أستاذا في العديد من الجامعات المصرية ؛ يركب  دراجة هوائية بسيطة ؛ وينتعل صندلا خفيفا  في القدم .  وأشهد   أنه كان شخصا ودودا محبا للكل ؛ ولقد رأيت بعيني فرحة وترحيب الجميع به عندما يأتي إلي الجمعية الفلسفية أو المجلس الأعلي للثقافة .

بعض مراجع ومصادر المقالة :-
1- الأب كريستيان فان نسبن :- مسيبحون ومسلمون إخوة إمام الله ؛ ترجمة  أنور مغيث ؛ تقديم زينب محمود الخضيري ؛ المجلس الأعلي للثقافة ؛ المشروع القومي للترجمة ؛ الكتاب رقم " 1009 " ؛الطبعة الاولي ؛2006 .
2- مراد وهبة :- مسار فكر – سيرة ذاتية ؛ الجزء الأول ؛الهيئة المصرية العامة للكتاب ؛ الطبعة الأولي ؛ 2011 .
3- أنور مغيث :- مع الأب كرييستيان ؛جريدة الأهرام ؛ 17 مايو 2016 .
4- مجدي سعيد :- الأب كريسيان فان نسبن : مراحل اكتشاف الإسلام ؛موقع إسلام اون لاين .
5- بعض الذكريات الشخصية لكاتب هذه السطور .