ـــــــــــــــــــــــ فى المسيح ــــــــــــــــــ
كمال زاخر
الجمعة 12 مايو 2023
يضع الكاتب اصبعه على مفتاح فكر بولس الرسول ويجول احصائياً فى رسائله وكلامه فى مختلف ظروفه، دفاعاً أمام ولاة وملوك أو دحضا لتقولات مناهضيه، أو لإرشاد تلاميذه ومؤمنى الكنائس التى أسسها، يسجل الكاتب هذا بقوله "وقد نحت بولس الرسول لنفسه اصطلاحاً يصور الحقيقة العملية الاختبارية فى علاقته بالمسيح، وهو اصطلاح (فى الميبح)، والذى ورد فى رسائله 164 مرة، والذى يُعَبّر به عن كل نفكير وحركة وعمل وحياة له (فى المسيح).
فإيمانه (فى المسيح)،
وبرُّه (فى المسيح)،
وصلاته وفرحه وسروره وكل عطية نالها (فى المسيح)،
ومحبة وسلام وقداسة وختم روحى ، وختانة، والجسد الواحد،
كل ذلك يعيشه ويمارسه ويراه (فى المسيح).
ويختتم الكاتب عرضه هذا بقوله "لقد صار هذا الاختبار عنده عقيدة ثابتة، وإيماناً لا يحيد عنه، ورسالة استلمها ليسلمها.
ويستطرد الكاتب "كذلك وفى نفس الوقت، كان يشعر وهو واثق أنه كما يحيا عو فى المسيح، فالمسيح يحيا فيه، فهى شركة حيَّة، فيها أخذ وعطاء، اغتنى بها بولس الرسول وأغنى كثيرين."
ويضعنا الكاتب أمام مكاشفة نحن طرف فيها بقوله "ونحن نسأل: هل يمكن أن نبلغ إلى هذا الاختبار، اختبار الإيمان بالمسيح قائماً بمجده فى العُلا؟، وهو بآن واحد هكذا مُحتَوى داخلنا بشخصه، نراه بالروح، ونحسُّه، ونتعامل معه، وهو فى مجده قائم عن يمين الله، إنها خبرة إيمان فائقة تُعتبر أغنى ما حصل عليه القديس بولس وما كرز به."
وينبهنا الكاتب إلى مفارقة بين رؤية القديس بولس للمسيح والرؤية عند كثيرين بيننا، "مرة أخرى نقول إن مسيح القديس بولس الذى يتعامل معه هو كما ظهر له، مسيح المجد فى السماء، مسيح الواقع الروحى الحى الدائم الفائق، ليس بصورته التاريخية على الصليب، كمانحاول نحن بإلحاحنا المادى أن نصوَّره بألف صورة وهو مصلوب، أو حينما أنزلوه أو دفنوه أو حتى حينما قام، فهذب هو تاريخ الخلاص الذى أكمله المسيح لنا بالجسد على الأرض، وأكملناه نحم معه. لكن بولس الرسول كان يتعامل مع المسيح كما ظهر له حياً فى السماء فى ملء مجده فى وجوده مع الآب، المسيح الروح، والمعطى للروح." "مرة أخرى، هناك فارق شاسع بين أن نستحضر صورة المسيح من الماضى حينما صُلب أو قُبِر أو قام، لنصنع معها علاقة أو شركة على مستوى التأمل، وبين أن يأتى المسيح بشخصه ويُستعلن لنا بحاله الآن كما هو فى السماء فى المجد، لكى يصنع فينا منزلاً ويقيم، ونصنع نحن معه شركة فى المحبة بالإيمان الواعى".
"فمسيح القديس بولس ـ والكلام مازال للكاتب ـ ليس هو مسيح صور التاريخ التى كانت؛ بل مسيح أفعال الخلاص حية متجلية فعَّالة فى ملء كمالها وقوتها وجلالها، هكذا عاش بولس آلام المسيح وموته وقيامته، لما عاش فى مسيح المجد الرب الروحمن السماء وحياته متجلية فيه." ويوجز القديس بولس هذا الاختبار بقوله "لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ، ... وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ. (أفسس17:3و19)
يستعرض الكاتب ما سجله القديس بولس فى رسائله عن معرفة المسيح الفائقة وكيف كان يحيا فى المسيح، مدعوماً بقوته ويعلق "يلاحظ القارئ أن حياة الشركة التى كان يعيشها القديس بولس (فى المسيح)، هى التى فتحت عليه كنوز (قوة المسيح)، و(غنى المسيح)، و(بركة المسيح)، فأصبح القديس بولس يمتلكها من واقع حياة المسيح التى يحياها فيه ومعه، أى حياة الشركة بالروح مع المسيح الرب الروح من السماء. وليست قوة وغنى وبركة المسيح فقط هى التى حازها بولس من واقع حياة الشركة (فى المسيح)، بل غيرها أهم وأعجب.
ويوجز الكاتب خبرة القديس بولس "يضع يدنا على الذى أمسك بالمسيح قبل أن يمسك بالمسيحية، واجتاحه لاهوت ابن الله قبل أن يفهم كلمة واحدة عن لاهوت المسيح، لذلك قامت مسيحية القديس بولس على المسيح وليس على اللاهوت أو المفهومات المسيحية، لذلك فالمسيحية عند القديس بولس لم تكن هى الطريق إلى التعرف على المسيح، بل المسيحية عنده بدأت كرؤية وخبرات وتعبيرات منبثقة عن المسيح، لما حل المسيح فى القلب."
وتحت عنوان "الأخلاقيات عند القديس بولس تنبع من ظهور الرب له" ينبهنا أن العلة فى رسم منظومة الأخلاق عند بولس، والتى يتحتم أن يتحلى بها كل مسيحى، أو المسيحية ككل، هى "محبته للمسيح".
"حباً سرق روحه فلم يعد القديس بولس يشعر ببولس، إنها "وحدة الحب" أو اتحاد المحبة أو شركة المحبة، لأن المسيح الذى أظهر ذاته له هو هو بشخصه مسيح الجليل والبحيرة الذى اشبع تلاميذه من حبه".
"مسيح العشاء السرى" "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى." (يوحنا1:13)، الذى فى يوم من الأيام باح بسر حبه العنيف لتلاميذه، ولكنه أخفاه فى صورة وصية "هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ."(يوحنا 12:15)، ثم عاد وأكد "اثبتوا فى محبتى" (يوحنا 9:15)، وآخر دعاء قدمه كصلاة للآب كان "26وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ». (يوحنا 26:17).
ويختتم الكاتب طرحه هذا "عزيزى القارئ، بولس الرسول كان يحتسب نفسه غير مستحق لهذا الحب وهذه الشركة من أجل ما اقترفت يداه، ولكن احتسب أن الله رحمه، لأنه فى جهل وفى عدم إيمان صنع كل ما صنع ، ثم اختاره الله وانتخبه المسيح كخاطئ أسرف فى خطاياه، وسكب فى قلبه هذا الحب؛ بل سكب حياته فيه لكى يتجرأ ويدعو كل الخطاة لهذا الحب بعينه وهذه الشركة عينها والحياة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح !! ... ويتسائل الكاتب ـ وأنا معه ـ "فهلاَّ بلَّغت؟.
===================
فى ذات السياق، أرسل لى صديق من العالم الواقعى مقطع مسجل يتناول فيه الأب الأسقف الشهيد الأنبا ابيفانيوس، مصطلح "فى المسيح"، أوجزه فى سطور:
* القديس بولس يورد تعبير "فى المسيح" فى رسائله نحو 175 مرة، ولو قرأنا رسالة أفسس، أول اصحاح، سنجد أنه تكرر نحو 14 مرة، فواضح أنه ليس كلمة عابرة عنده، فمن أين جاء به؟.
* كلمة "فى المسيح لم يخترعها القديس بولس، من عندياته، بل كات البداية فى لقائه بالرب يسوع فى طريق دمشق، وقتها غمرته وملكت على شعوره.
* السؤال هل قالها أحد غيره؟، أول من قالها هو الرب يسوع نفسه، ففى واحداً من حوارات السيد المسيح مع تلاميذه يدور حوار بينه وبين واحدا منهم وهو فيلبس يسجله انجيل يوحنا اصحاح 14 :
"قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ:«يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ" كانت هذه هى البداية ويكمل الرب يسوع "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ"، تعليم اننا فى المسيح أو أن السيد المسيح فينا، هو تعليم قال به السيد المسيح نفسه، وقد بدأه من أعلى نقطة؛ أنه ـ أى المسيح ـ فى الآب والآب فيه، وانتم فى المسيح، وحيث يحل المسيح يحل الآب ايضاً فأصبحت الوحدة ليست مجرد وحدة مع الرب يسوع بل هى وحدة مع الثالوث الأقدس.
* وفى صلاة الرب يسوع الوداعية فى بستان جثسيمانى والتى سجلها القديس يوحنا فى انجيله (اصحاح 17) "أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي" ويختتم صلاته "وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ".
* وقد كرر التلاميذ هذه العقيدة عن السيد المسح، فيقول القديس يوحنا فى رسالته الأولى "مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ، فَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي اللهِ. وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي ِللهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ". نقطة اساسية فى المسيحية؛ نحن لا نعبد إله فى السماء بعيد عنا، بل نعبد إله "فينا"، إله تواضع ونزل قدم لنا نفسه على المذبح، فخدناه جوانا، اتحدنا فيه فى المعمودية وأعطانا نفسه نأكله، صرنا نحن فيه وهو فينا.ويستكمل القديس يوحنا الكلام عن الروح القدس: وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هذِهِ الْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ حَق وَلَيْسَتْ كَذِبًا. كَمَا عَلَّمَتْكُمْ تَثْبُتُونَ فِيهِ."
* بهذا نكون نحن فى الآب والابن والروح القدس، كل هذا أخذه القديس بولس الرسول '> القديس بولس الرسول وهو فى الطريق الى دمشق، عندما أحس أن نوراً أحاطه من كل جهة وهو أصبح نقطة داخل هذا النور
===================
انتهى عرض الباب الأول "حياة القديس بولس الأولى ودخوله الإيمان"، لتواصل تباعاً الباب الثانى "صفات القديس بولس ومنهجه العام".