ألفى كامل شنّد
يذهب البعض في القول ان أوروبا نهضت بعد ان نفضت غبار الاديان، بفصل الدين عن الدولة. وهو قول حق ينطوى على إجحاف بالدور الذي لعبته المسيحية في بناء الحضارة الغربية التي يجنى العالم ثمارها في شتى ميادين الحياة حاليا.
ففي الواقع لا يمكن نتجاهل دور الكنيسة في نهضةأوروبا. رغم ما وقع من أخطاء وتجاوزات من بعض رجال الكنيسة في القرون الوسطى من محاكمات جائرة ضد عدد من العلماء جاهروا يأراء علمية ، رأت الكنيسة حينئذ لا تستقيم مع ماورد في في سفر التكوين بالكتاب المقدس حول نشأة الكون وقصة الخلق في ضوء التفسير الحرفي لنصوص للكتاب المقدس .
لكن الحقيقة ان الاديرة هي التي حافظت على تراث أوروبا من الاندثار على أثر سقوط روما في أيدي قبائل الجرمان (البربر). وقامت الكنائس بدور عظيم في محو الجهل، ونشر التعليم . حيث الحقت بكل كاتدرائية مدرسة لتعليم القراءة والكتابة والحساب وعلم الفلك والموسيقى وعدد من الفنون بشكل واسع .و شجعت الكنيسة العلماء على البحث. وكان كثير منهم من الرهبان. وأسست أول جامعة في التاريخ هى جامعة بولونيا في ايطاليا عام 1088، وقد تأسست على قواعد العلم اليوناني، تمنح الدرجات العلمية في الماجستير والدكتوراه. ظهر في بيزنطة في سنة 565 للميلاد القانون المدني لأول مرة في التاريخ في عصر الامبراطور جوستنيان.
فدور الدين في الحياة والنشاط الاقتصادي ملحوظ وملموس. تؤكده الدراسات الإجتماعية.، وأوضحه بالبحث الواسع أحد أهم رواد علم الاجتماع " ماكس فيبر"( 1864 –- 1920) من خلال دراسة علمية اجتماعية رصينة تناولت الأثر الديني في عدد من الأديان والمذاهب في حياة الافراد والشعوب .
ومن الأمثلة على ذلك الدور الذى لعبه رجل الدولة روبرت شومان فى مسار القارة الاوربية من منطلق إيمانه الكاثوليكى الشديد واخلاصه والتزامه بالعقيدة والفضائل المسيحية الممثلة في "عقيدة التجسد الالهى" التي تقول ان الله صار إنسانا ليرتقى بالإنسان ليصبح الها، ويتمتع بالكرامة وحقوق مقدسة. الهمت الحكومات المسيحية بعد الحربين العالمية الأولى والثانية وضع الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1945. وأيضا "عقيدة الفداء" التي تحث المسيحي على المحبة المجانية وبذل النفس والتضحية لأجل الآخرين.
كان روبرت شومان رجلا مشبعا بالثقافة المسيحية، ضليع بالفلسفة المسيحية وكتابات القديس توما الاكوينى في اللاهوت، القانون، الاجتماع، الاقتصاد والسياسة. وتأثر بافكار القيلسوف المسيحى المعاصر جاك مارتان .
روبرت شومان (1886-1963) :
وُلد شومان في يونيو عام 1886 في مدينة كلاوسن في لوكسمبورج لوالدين من أصل فرنسى . تلقى شومان تعليمه حتى المرحلة الثانوية في لوكسمبورج . استكمل بعد ذلك دراسة الاقتصاد والاحصاء، والفلسفة السياسية واللاهوت، في جامعات برلين، وميونيخ، وبون، وستراسبورج من عام 1904 وحتى عام 1910، حصل على شهادة في القانون بأعلى درجات التميز من جامعة ستراسبورغ. واشتغل بالمحاماة.
انتقل شومان مع نشوب الحرب العالمية الى فرنسا وأصبح مواطنًا فرنسيًا. ومارس في موطنه فرنسا نشاطًا واسعا في الحياة السياسة..
بعد احتلال القوات النازية فرنسا، تم اعتقله من قبلالالمان. وفى السجن، ولدت في ذهنه من نتاج الصلاة والتأمل في الكتاب المقدس فكرة كانت بمثابة البلسم فى انقاذ القارة القديمة التي كان لا يزال يدوي في أرجاءها زئير المدافع.
ترجع فكرة اوروبا الموحدة التي سيطرت علىه ، وتحاور مع عدد من المعتقلين حولها الى سنوات مبكرة. فقد كانت حلم الشباب الالمانى الكاثوليكى "أوروبا الموحدة، المؤسسة على التضامن وحماية السلام العالمي، في المؤتمر الذى نظمه عندما كان رئيسا للاتحاد الأبارشي لجمعيات الشباب الكاثوليكية لأبرشية ميتز .
طوال فترة الاعتقال، لم يستسلم لسيطرة مشاعر الكراهية والعداء للنازية. ، بل راح يفكر في كيفية تجنب البلدان الاوربية النزعات، وأهمية بناء جسور التضامن وتبادل المنفعة والتعاون بينها. وان خلق مؤسسات مشتركة، تؤدي إلى تكامل سياسي أوربى تدريجي، يجنب أوربا الخلافات. وأنه إذا تم تقاسم الموارد، فسوف ينمو الجميع ويكونون أفضل حالًا.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنتخب عضو في البرلمان الفرنسي. وتقلد مناصب وزير للمالية عام 1946م، ثم رئيس الوزراء في فرنسا مرتين عامي 1947م و1948م، ثم وزيراً للخارجية حتى عام 1952م. وكانت حكومة شومان من الحكومات الفاعلة التي اقترحت خططًا أنتجت كل من مجلس أوروبا والسوق الموحدة للمجتمع الأوروبي. وتقلد منصب أول رئيس للجمعية البرلمانية منالعام 1955 حتى 1961.
ففي العام 1949 وهو يشغل منصب وير خارجية فرنسا أعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ان هدف فرنسا خلق منظمة ديمقراطية لاوروبا، يمكن لألمانيا بعد النازية أن تنضم إليها. وقام بسلسلة من الخطب في اوروبا وأمريكا الشمالية بالدعوة الى خلق جماعة اوربية تتخطى حدود الأوطان . هذا الهيكل فوق الوطن، كما قال، سوف يخلق سلاماً دائماً بين الدول الأعضاء.
في 9 مايو 1050 ، اقترح شومان أن يجري تعدين الفحم والصلب في أوروبا بشكل متفق عليه بين الدول الأوروبية . وذلك بوضع الإنتاج الفرنسي والألماني للفحم والصلب تحت سلطة عليا مشتركة واحدة. وجعل هذه المنظمة قابلة لمشاركة دول أوربا الغربية.
كانت هذه المبادرة الحجر الأول الذي سيقود بعد عقود إلى ولادة الاتحاد الأوروبي.
وجد خطاب شومان صدى إيجابيا ، فاستجاب مستشار ألمانيا الغربية بسرعة برد إيجابي. كما تجاوب مع الدعوة حكومات هولندا وبلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورج ، بينما لم يتجاوب الانجليز مع المبادرة بحجة الانضمام الى رابطة دول الكومنولث. وقّع الأعضاء المؤسسون الستة على معاهدة لإدارة الصناعات الثقيلة (الفحم والصلب) تحت إدارة مشتركة "لجعل الحرب ليس فقط غير واردة، بل أيضا مستحيلة ماديًا"
. وتأسست في 18 أبريل في عام 1951المجموعة الأوروبية للفحم والصلب . وهي أول منظمة أوربية تتعدى حدود الوطن. مهدت الطريق للقيام الجماعة الاقتصادية الأوروبية والاتحاد الأوروبي بعد ذلك.
في سنة 1950 أوعز لرئيس الوزراء الفرنسي "رينيه بليفين" باقتراح لتأسيس جيش لعموم أوروبا يجمع ألمانيا وفرنسا وايطاليا وبلجيكا، وهولندا، ، لوكسمبورج لكن قوبل بالرفض من البرلمان الفرنسي بسبب الرغبة في فرنسا النووية. وأيضا من قبل إيطاليا في ظل إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تأسست في واشنطن. العام 1949.
وبالتعاون مع السياسى الألمانيّ كونراد أديناور والإيطاليّ ألكيد دي جاسبري، تحقق توقيع "معاهد روما" في 25 مارس 1957، بموحبها أنشأت المجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة (أو السوق الأوروبية المشتركة) عام 1957، ومن ثم قيام “الاتحاد الأوروبي" الذى يضم حاليا 27 جولة..وأختير شومان أول رئيس للبرلمان الاوريى بالتزكية . ومنحه البرلمان الاوربى في عام 1958 لقب «أبو أوروبا» وبعد ان ترك منصبه على أثر مرضة بتصلب دماغى. أُطلِق على اليوم الذى صدر فيه إعلان شومان 9 مايو1950 أول وثيقة رسمية لإعلان ولادة الاتحاد الأوروبي «يوم أوروبا». سُمّي الحي الذي يضم العديد من مؤسسات الاتحاد الأوربي م في بروكسل باسمه نظرًا لأهميته وتكريمًا لعمله الرائد من أجل أوروبا موحدة.
وقد توفي شومان في فرنسا بتاريخ 4 أيلول 1963، عن عمر يناهز 77 عامًا. وبعد مرور 60 عاما على وفاته، وافق البابا فرنسيس فى على مرسوم الاعتراف "بالفضائل البطولية" لشومان، وهي الخطوة الأولى في اجراءلت متتالية تؤدي إلى إسباغ صفة القداسة عليه والتى تستدعى نسب معجزة واحدة لشومان من أجل تطويبه ومعجزة أخرى حتى يمكن اعتباره قديسا.
وحدة أوروبا والهوية المسيحية :
قوبل تأسيس الاتحاد الاوربة الاعتراض والرضى معا من الكنيسة الكاثوليكية التي ينتسب أغلب شعوب اوربا لها. حيث خلت مسودة الدستور التأسيسية من وجود أي إشارة واضحة لجذور أوربا المسيحية.
ولقد سعت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أثناء إعداد الدستور الاوربى إقناع الكتلة الأوروبية تضمين إشارة إلى الجذور المسيحية، ضمن مطالبتها بإعادة إطلاق الدستور الأوروبي. وبالمثل ضغط رئيس الوزراء الإيطالي رومانو برودي حينئذ على ضرورة تضمين إشارة إلى الجذور الكاثوليكية في الدستور الأوروبي.
وناشد البابا يوحنا بولس الثانى في خطاب أمام البرلمان الاوربي في العام 1988 الأعضاء النواب عدم اسقاط الجذور المسيحية من مداولات صياغة الدستور. وضمت عدد من الدول الاوربية صوتها الى جانب صوت الكنيسة، الا ان تلك المطالب باءت بالفشل. وصدر الستور الاوربى يتجاهل الهوية المسيحية لاوربا. وان تحافظ الدول الأعضاء على حوار مفتوح وشفاف وثابت مع القيادات الدينية في أوربا .
وقد عبر البابا بنديكتوس السادس عشر عن امتعاضه لتجاهل الدستور التراث المسيحى لاوربا مع الاحتفال بالذكرى الذكرى الخمسين لمعاهدة روما التي بموحبها تأسس الاتحاد الاوربى ، قائلا : :"إن الزعماء لا يمكنهم استبعاد القيم التي ساعدت على تشكيل روح القارة".
وأضاف "إذا كانت حكومات الاتحاد الاوروبي تريد في الذكرى الخمسين لاتفاقية روما أن تقترب من مواطنيها فكيف يمكنهم استبعاد عنصر أساسي لهوية أوروبا مثل المسيحية التي ينتمي لها الغالبية من شعبها؟".
وقد عبر البابا فرانسيس عن رضى الكنيسة، من هذه الخطوات الوحدوية في للذكرى السبعين لإعلان شومان قائلا: " إن ذلك الإعلان أدى إلى أن تعيش أوروبا فترة طويلة من الاستقرار والسلام الذي ننعم بمزاياه اليوم."
فالبابا فرنسيس يدرك ان صمت الدستور الاوربى عن الإشارة إلى جذور أوربا المسيحية، ـزاعق في التاريخ الاوربى ، العصور الوسطى بكل المخاض التي أفرزت ، عصر النهضة و الباروك. . وان التراث المسيحي الاوربي حاضر. وبارز في عمارة الكاتدرائيات الشامخة الرائعة، مثل كاتدرائية القديس بطرس، وكاتدرائية نوتر دام دى باريس، وكاتدرائية كولونيا، وكنيسة وستمنستر وكاتدرائية القديس باسيل. وفى التماثيل الدينية التي تزين الكنائس والمتاحف الأوربية. ورسومات مايكل انجلو وليونارد دافنشى ورفائبل ورمبرانت وغيرهم، وألاعمال الموسيقى الدينية العظيمة الخالدة لكبار الموسيقين ، في القداسات، وتراتيل العشاء الاخير للمسيح مع تلاميذه وترانيم صلب المسيح والتراتيل الجريجورى. وفي أغلب الاعمال الأدبية الكبرى المستوحاة من الكتاب المقدس. يقول الشاعر المسرحى الامريكي ت.س اليوت: " قد لا يؤمن فرد أوروبي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية".