هاني لبيب
أصبحنا نفتقد كثيرًا المعارك الفكرية الحقيقية.. بعدما فرضت المعارك الافتراضية نفسها على السوشيال ميديا دون أن تتضمن أى محتوى حقيقى أو اختلاف فعلى فى وجهات النظر.
ولذا أسعد كثيرًا عندما أجد كتابًا يرصد نموذجًا من تلك المعارك التى أثرت عن حق فى الحياة الثقافية المصرية. هذا الكتاب هو «عبقرية المسيح.. المعركة المجهولة بين الأقباط والعقاد.. وثائق تاريخية» لروبير الفارس.
أصدر عباس العقاد الطبعة الأولى لكتابه «عبقرية المسيح» سنة 1953، وقد أثار الكتاب حينها سجالًا كبيرًا لما عليه من ملاحظات عديدة من الباحثين والمتخصصين. وهى ملاحظات تعود إلى مدى ما جاء به من معلومات.
وتأتى أهمية الكتاب الجديد فى أنه يرصد هذه المعركة المجهولة التى دارت بين المواطنين المسيحيين المصريين وعباس العقاد بعد 70 سنة على إصدار كتابه «عبقرية المسيح»، الذى يتناول فيه.
تاريخ ميلاد السيد المسيح وموقعه فى التاريخ من خلال الأناجيل من جانب، والسياق السياسى والاجتماعى والفكرى والدينى فى عصر الميلاد من جانب آخر. كما يتعرض لما جاء فى الكتاب المقدس عن مدى إخلاص التلاميذ له. ويطرح فى النهاية سؤالًا: ماذا لو عاد المسيح؟.
يرصد روبير الفارس فى كتابه الجديد.. أهم ما جاء بتلك المعركة من اعتراض المواطنين المسيحيين المصريين على عنوان الكتاب باعتبار أن العبقرية صفة بشرية، ولا تتسق مع السيد المسيح حسب مكانته فى العقيدة المسيحية. كما يسجل أن المتشددين اتهموا العقاد باعتناقه المسيحية فى السر، وهو ما رد عليه العقاد بقوله: هل إذا كتبنا عن أديان الأمم، وجب أن ننتقل فيها من دين إلى دين؟!.
ومن المصادفات أنه تم وضع القمص سرجيوس (خطيب ثورة 19) تحت الإقامة الجبرية ومصادرة مجلة «المنارة المصرية» التى أسسها.. تزامنًا مع هجومه على العقاد، مما جعل الرأى العام يعتقد أن خلافه مع العقاد هو السبب فيما حدث له. وكان القمص سرجيوس قد كتب عن العقاد يقول: (.. فأراد أن يتابع النجاح بنجاح أوسع ويحمل سلسلة من العبقريات تتصل الحلقة بالحلقة.
فعمد إلى الكتابة عن عبقرية يهتم بها الناس ويكون لها رواجها ويفتح بها سوقًا أخرى، فوجد أمامه القاسم المشترك الأعظم الذى يشترك فى حبه الشرق والغرب، ويعبده المسيحيون وينتظره اليهود ويقدسه المسلمون ويحترمه الوثنيون، ألَا وهو السيد المسيح. وفى غير رَوِيّة أسرع العقاد وأخرج من درج مكتبه «اكليشيه» العبقرية، وراح يضعه إلى جانب اسم المسيح. وأخذ يكتب عن «عبقرية المسيح»..).
كما اتهم القمص سرجيوس عباس العقاد بنقل كتابه أو ترجمته من كتاب «يسوع رجل العبقرية» للكاتب الإنجليزى «مدائن مرى»، الذى أصدره فى سنة 1936.
تصور عباس العقاد أن كتابه «عبقرية المسيح» سيلقى نجاحًا مثل عبقرية محمد وعبقرية عمر. ولذا كان من الذكاء أنه لم يتعرض لقضية صلب السيد المسيح ليتجنب الاختلاف العقيدى بين الإسلام والمسيحية.. تجنبًا للدخول فى معترك الفرق فى اختلاف المفاهيم بين المسيحية والإسلام.
نقطة ومن أول السطر..
قيمة هذا الكتاب الجديد أنه يرسخ فكرة أن يرى كل منّا الطرف المقابل له حسبما يريد هذا الطرف أن يُعرف نفسه، وليس حسبما أريد أنا أن أراه حسب وجهة نظرى وانحيازاتى.
اعرفنى كما أنا.. حسب قناعاتى، ولا تعرف عنى حسبما تريد أن ترانى.
استدعاء مثل تلك الخبرات من المعارك الفكرية هو نوع من التأكيد على أن اختلاف العقائد لا ينفى التعايش بين أبناء تلك العقائد وأتباعها.
نقلا عن المصري اليوم