د. رامي عطا
الحديث عن الوحدة الوطنية في مصر لا يُمل منه، فهو حديث شائق وجذاب، يبدأ خطه الزمني من الماضي ويستمر في الحاضر وينطلق للمستقبل، هناك مواقف وقصص وحكايات، أفكار وآراء ومبادرات، يتوارثها المواطنون جيلًا بعد جيل، ربما لأن الوحدة الوطنية واحدة من القيم الإيجابية التي يتمتع بها المصريون منذ أزمنة بعيدة، حيث يتميز المجتمع المصري بحالة خاصة، فريدة ورائدة، كما أنها واحدة من المظاهر الإيجابية التي تعكس عظمة مصر وشخصيتها الرائعة.

ولمصر مكانة خاصة ومتميزة في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، ولها مكانة كبيرة أيضًا في القرآن الكريم، حيث ذُكرت مرارًا في الكتب المقدسة، كما زارها وعاش فيها الكثير من الرسل والأنبياء منهم إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون، وزارتها العائلة المقدسة (السيد المسيح والقديسة مريم العذراء والشيخ يوسف النجار)، وباركت الكثير من المواقع فيما يُعرف بمسار العائلة المقدسة الذي توليه الدولة اهتمامًا واضحًا خلال السنوات الأخيرة، كما زار مصر الكثير من الصحابة، وبعضهم دُفن فيها، وفيها عاش الكثير من القديسين وأولياء الله الصالحين، الذين يتبارك بهم المصريون وزوار مصر من العرب والأجانب.

وقد صدّرت مصر الرهبنة لكل العالم، وصارت كنيستها منارة في الشرق، مثلما صار الأزهر الشريف، جامعة وجامعة، منارة للمسلمين حول العالم. انظر حولك تجد المساجد تجاور الكنائس، والمنارات بجانب المآذن، ولعل زيارة للمتحف القبطي والمتحف الإسلامي والمتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط تعكس صورة بهية لحضارات مصر وغنى ثقافتها عبر العصور.

وهذا العام تزامن الصوم الذي يسبق عيد القيامة المجيد عند المسيحيين مع صيام شهر رمضان المبارك عند المسلمين، وهو وإن كان أمرًا طبيعيًا يحدث كل عدة سنوات، لكن الدلالة هنا هي أن كل المصريين يصلون ويدعون ويشتركون في مناسبات واحدة في ذات الوقت، فشهر رمضان وإن كان مناسبة دينية للمسلمين، إلا أنه مناسبة اجتماعية وثقافية لجميع المصريين.

حين نقرأ تاريخ المصريين، قديمًا وحديثًا، مع مزيد من التحليل العميق، فإننا نكشتف الكثير من مظاهر الاتحاد والوحدة والترابط، فالحقيقة التاريخية التي يؤكدها المؤرخون والباحثون هي أن المصلحة المشتركة ووحدة الأهداف والمشروعات القومية تجمع المصريين. اقرأ تاريخ الثورة العرابية (1881-1882م) وثورة سنة 1919م وعدوان 1956م وبناء السد العالي وهزيمة 1967م وحرب السادس من أكتوبر 1973م وثورتي 25 يناير 2011م و30 يونيو 2013م.

وفي مصر ظهرت المدن والأحياء الكوزموبوليتانية، مثل القاهرة والإسكندرية، حيث تجاور المصريون من أولاد البلد مع الجاليات الأجنبية، اليونانية والطليانية والفرنسية والإنجليزية، وغيرها، تعاونوا وتعاملوا وصارت بينهم علاقات اقتصادية واجتماعية وثقافية.

وفي تقديري فإن التعصب والتطرف والعنف والتمييز ورفض الآخر، وغيرها من ممارسات سلبية وسلوكيات بغيضة، هي ممارسات دخيلة وغريبة على الشخصية المصرية، لها أسبابها الاقتصادية والاجتماعية مثل الفقر والبطالة والأفكار الرجعية الوافدة علينا والمفاهيم الدينية الخاطئة والمغلوطة، وغياب المشروع الحضاري أحيانًا، حيث تشير الخبرة التاريخية إلى أنه حتى وإن حدثت خلافات أو مشكلات هنا أو هناك، فإن ما يجمع المصريين أكثر كثيرًا مما يفرقهم، لأنهم "مصريون قبل كل شيء"، تجمعهم سمات مشتركة ومصالح مشتركة، ما يُعبر عنه بالتعددية في إطار الوحدة أو الوحدة الحاضنة للتنوع.

يقول الدكتور طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر- 1938م): "لعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية فهو لا يفسد وحدة اللحن، وإنما يقويها ويذكيها، ويمنحها بهجة وجمالًا"، وهو يؤكد في كتابه أن الأزهر الشريف والكنيسة القبطية من مظاهر المجد المصري القديم ومقوم من مقومات الوطن المصري، وأنه لابد من أن يكون مجدهما الحديث ملائمًا لمجدهما القديم.

وتبقى "مصر هبة المصريين" حسب الأستاذ محمد شفيق غربال في كتابه (تكوين مصر- 1957م) ما يجعلنا نتحمل مسئولية العمل على دعم المواطنة والحوار وترسيخ حالة التسامح والعيش المشترك، عبر مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ولتكن أجراس الكنائس وأذان المساجد، في كل يوم، في كل قرية وحي ومدينة، دعوة للمصريين لأن يتحدوا في مواجهة كل صعب، وتجاوز التحديات والمشكلات، دعوة لأن ينبذوا كل سلوك رديء، وأن يتحلوا بكل ما هو راق وجميل، من أجل حاضر أفضل ومستقبل مشرق، لنا ولأولادنا من بعدنا.
نقلا عن الأهرام