عادل نعمان

 لا أظن أن تيار الإسلام السياسى بفرقه وفصائله كاملة قد تقدم ببرامج محددة، أو دراسات جادة علمية مفصلة لحل مشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم يشارك بصورة أو بأخرى فى ترقية الضمير المجتمعى أو توجيه المجتمع إلى القيم الإنسانية الرفيعة، وأكبر دليل هذا التردى القيمى والأخلاقى الذى صاحب الصحوة منذ السبعينيات، ولم يتقدم بنماذج يُحتذى بها فى العلم والعمل.

 
اللهم سوى كتلة من النصائح والإرشادات والوعظ لا تُبنى بها الأمم، وكذلك الكثير من النماذج التى حملت السيف يومًا وأحرقت المدن بأكملها ودكت الحصون على ما فيها، ومستمرون فى هذا العرض وما زالوا مصرين على أن يكونوا قدوة ومثالًا وأسوة يحتذى بها، إلا أن الحال غير الحال والوقائع والأحداث لم تعد مقبولة على سيرتها الأولى، حتى لو كان هذا هو العدل العمرى ذاته، وعلى ما ألفه الناس واعتادوا عليه وتفاخروا به.
 
فما من حاكم الآن يستطيع أن يراقب الأسواق، ويعس ليلًا فى شوارع المدينة يحرس الناس ويكشف عن أهل الريبة ويتسمع خلف الأبواب فيسمع صراخ الجياع، ويقوّم المعوج بالدرة، ويوزع الأنصبة ويقسمها حسبما يتراءى له، فيحول بينه وبين هذا ألف حائل ومانع، ولا يعتمده الناس ولا يقبلونه لخروجه عن سلطة الشعب والقانون، لكنه يصبح فى المجمل رمزًا للعدل ثقيلًا حمله وعصيًّا ومستحيلًا تنفيذه.
 
وفى هذا فإن هذا التيار يدعى أن العمل السياسى فرض دينى يفرضه على المسلمين فرضًا واجبًا، وكأنه ركن من اركان الإسلام، كهذا الذى ابتدعته الشيعة عن «الولاية» واعتبرته ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، لا يكتمل إيمان المسلم الشيعى إلا به، فكان اعتبار العمل السياسى فرضًا دينيًّا على المسلم عند أهل السنة أو قل من أصل الدين كالولاية تمامًا، فالولاية بالوصية عن إمام إلى إمام عند الشيعة.
 
والبيعة من أهل الحل والعقد أو من خليفة إلى خليفة عند أهل السنة، واعتبار الخروج عنها كفرًا وشقًّا لعصا الطاعة ومروقًا عن الدين، وهى جريمة تستوجب قتل صاحبها «من مات وفى عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية» وفى هذا قل ما شئت عن الظلم وقتل المعارضين وسحلهم وتعذيبهم وما استلزم ذلك من تأصيل فقهى وضعت له الأحاديث والأكاذيب والروايات، وهما معًا وجهان لعملة واحدة رديئة.
 
والسياسة التى تنتهجها التيارات الإسلامية منحازة بطبيعتها، متعصبة لأقربائها وندمائها، تحابى كل من هم على شاكلتها وشريعتها، وتتحزب لابن العم على حساب الغريب سواء كان صاحب حق أو مغتصبًا، كما انحازت وباركت غزو صدام حسين للكويت وتشريد أهله، متخاصمة مع الأجنبى، مشحونة ضد المخالف، متنافسة على مناطق منزوعة السلاح والخلاف.
 
تبارز وتقاتل كل راحل ومسافر وعابر طريق برعونة على ما فى أيديهم وفى ملكهم ووصايتهم، دون فهم رصين للمتغيرات الدولية، والنظام العالمى الجديد، وكيفية التفاعل والتعامل معه، وكذلك حقوق الأقليات داخل المجتمعات، والأصول الحديثة للمساواة وحرية الرأى والعقيدة، أو قل بحق إنهم إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
 
وهذه التيارات ترفع شعار «المشروع الإسلامى» هدفًا ووسيلة للوصول إلى الحكم، بل تتخطاه إلى مشروع عالمى، وهو محسوب لدى دول العالم الخارجى والداخلى أيضًا أنه مشروع عدوانى واستعدائى وإقصائى وتمييزى، ويخالف ويتصادم مع أصول الحضارة الحديثة، ويغلب آراء الفقهاء على العلوم التجريبية والإنسانية الحديثة، ويحبس مصالح الناس داخل تأويلات ثابتة من آلاف السنين دون تحديث يراعى مستجدات الحياة.
 
والأشد بأسًا هو منطق العزل والانطواء الذى يفرضه هذا التيار على منتسبيه بل يدعو له بخبث كل الأطراف المؤيدة والمتعاطفة، والدليل الذى يبرهن به الغرب على هذا ما يفرضه المسلمون على أنفسهم من عزلة داخل المجتمعات التى هاجروا إليها، وإصرارهم على ممارسة طقوسهم الدينية وشعائرهم بصورة قد تتصادم مع الكثير من القوانين والأعراف المحلية لهذه الدول، وهو مصدر خوف وترقب وتوجس، وربما يكون هذا أحد الأسباب الرئيسية التى تصاحب بعض الضغوط على الدول العربية والإسلامية.
 
وربما لو عقل وأدرك هؤلاء كل هذه الحقائق، وعادوا إلى صواب الدين الذى لا يحمل عبء السياسة على كاهله، ولا يدع للسياسة فرصة استنزافه واستخدامه واستهلاكه، ويعودون إلى الدعوة بالحسنى، ويتركون لعبة السياسة للحواة والبهلوانات وأصحاب الحيل وما تفرضه أصول اللعبة السياسية من مناورات ومناوشات أحيانا واشتباكات ومصادمات أحيانا أخرى.
 
وكلها ألاعيب مقبولة ومعتمدة فى السياسة لكنها ليست مقبولة لدين من الأديان، وبذلك نكون قد وضعنا الدين حيث يجب أن يكون والسياسة فى مربعها الصحيح دون خلط بينهما أو استنزاف طرف لآخر. «الدولة المدنية هى الحل».
نقلا غن المصرى اليوم