عاطف بشاي
«تحت الوصاية» ذلك المسلسل الذي عرض في الجولة الثانية من الماراثون الرمضانى من تأليف «شيرين دياب ومحمد دياب» وإخراج «محمد شاكر خضير» وبطولة «منى زكى»، هو درة غالية من درر الدراما التلفزيونية المعاصرة، بل يمكننا أن نقول دون مبالغة أو تعجل إنه واحد من أهم وأجمل المسلسلات في تاريخ الإبداع المرئى منذ بداية ظهور هذا الفن على مر السنوات الماضية.. وهو الأكثر قيمة وأهمية وأشمل تأثيرا وأعمق غورا وأبلغ تغلغلا في وجدان ونفوس وعقول المشاهدين على اختلاف وتباين ثقافاتهم وتوجهاتهم ومستوياتهم الاجتماعية والطبقية.

يتناول المسلسل قضية إنسانية واجتماعية وقانونية في غاية الأهمية والخطورة تتصل بقانون الولاية، ومن ثم فرض الوصاية المالية والتعليمية على الأبناء القصر بعد وفاة والدهم.. تلك الوصاية التي تنتقل إلى الجد أو الأعمام الذين يصبحون بموجب هذه الوصاية هم المسيطرون على مقدرات الأطفال رغم وجود الأم على قيد الحياة، وكأن موت الأب يمثل عقوبة توقع على للأم الأرملة التي تصبح بموجب القانون مجرد دادة أو خادمة للأولاد.. لا تملك حق التصرف المادى ومن ثم كل الحقوق المترتبة على ذلك.

تخوض البطلة في المسلسل رحلة مضنية وشاقة ومليئة بالأشواك والعثرات والإحباطات، وقد قررت رفض تلك الوصاية المجحفة والظالمة.. وفرض إرادتها للانفراد بحق الولاية.. ولا تعكس تلك الرحلة فقط- وهذا هو سر هذا المسلسل البديع- استرداد الحقوق المغتصبة وإصلاح العورات التي شابت القانون بقدر ما ترمز إلى معان فلسفية أشمل وأعمق متصلة بقيمة الحرية الإنسانية بل الصراع البشرى لإثبات الوجود.. ومن ثم يصبح القارب الذي انتزعته تلك الأرملة البائسة بحثا عن لقمة العيش وتربية الأبناء في إطار حياة كريمة بمثابة رحلة الوجود الإنسانى في رواية «العجوز والبحر» لـ«هيمنجواى» وصراعه الدامى ضد سمكة القرش العاتية في البحر المتلاطم الأمواج.. تلك الرواية البديعة التي تتجاوز الحقوق المادية إلى أبعاد فلسفية تتصل بلغز الحياة والموت.. الإرادة الإنسانية.. الوجود والعدم..

يبدأ المسلسل بما يسمى في اللغة السينمائية «المقدمة المنطقية» أو «نقطة الانطلاق» أو «براعة الاستهلال»، وهى المقدمة الواقعية المعنية بطرح لب القضية الاجتماعية المثارة ومعاناة البطلة بعد وفاة زوجها وقرارها الحاسم بتحدى الظروف الصعبة. يأتى هذا القرار بمشهد بليغ وعميق الدلالة بارتدائها معطف الزوج المتوفى، في إشارة رائعة لعزمها على تقمص دوره في الحياة الزوجية كرجل.. لتقوم بمهام الزوج والزوجة في نفس الوقت.. وهو مشهد بديع لا ينسى من خلال صورة مرئية مؤثرة وبليغة دون لغو أو ثرثرة خطابية أو سفسطة حوارية أو مباشرة.

وينجح كاتبا السيناريو والحوار والمخرج في ابتكار الاعتماد على المقدمة واستعارة تفاصيلها الموحية كـ«إفان تيتر» تبدأ به كل حلقة من حلقات المسلسل، وهو ابتكار يؤكد دراميًا أن السيناريو الناجح يعتمد في بنائه الدرامى على المقدمة المنطقية التي تعنى أن الدوافع والأحداث المتوالية والمتصاعدة ومبررات الحبكة الدرامية باعتمادها على المنطق الذي يربط بين البدايات والنهايات.. الأسباب والنتائج.. الإرهاصات والحقائق.. أبعاد الشخصيات النفسية والاجتماعية والإنسانية.. دوافع الصراع.. الشكل والمضمون.

والحقيقة الساطعة التي يكشف عنها المسلسل بجلاء ووضوح أن مؤلفى العمل ومخرجه لم يتورطوا بالانزلاق إلى غواية الميلودراما في الشكل والمضمون وطريقة السرد والتناول وتسلسل الأحداث وأداء الممثلين، فطبيعة الموضوع المثار يغرى بالاتجاه إلى هذا النوع الفنى.. وإذا كان المسلسل ينتمى إلى التراجيديا، فإن وعى صناع العمل بالخيط الرفيع الذي يفصل بين التراجيديا والميلودراما جنّبهم التورط في تفاصيل فواجع عاصفة ومصادفات صاعقة وأحزان طاغية وأحداث صاحبة تخاصم المنطق أو صراخ وعويل متواصل.. بالتالى فقد حافظوا على رونق وجلال وعذوبة الطرح الدرامى الإنسانى عميق الأثر.. وإذا كانت التراجيديا كما في مفهوم «أرسطو» تعتمد على عنصرى «الخوف والشفقة»، ومن ثم التعاطف مع البطلة والتأثر لحالها والشعور بالشفقة لحالها والخوف على مصيرها فإن التجسيد جاء في إطار من الأسى الشفيف والحزن النبيل وبراعة أداء البطلة «منى زكى» التي استطاعت بتوجهات مخرج عميق الرؤية أن تستدعى كل مهارات الإبداع في ملامحها وتعبيراتها ونظراتها الموحية دون انفعال أو تزيد أو مغالاة، ساعدها في ذلك حوار يخلو من الفجاجة الزاعقة وسطحية التعبير الخطابى المباشر..

أما المخرج المفاجأة، فقد استطاع بمهارة وقدرة خلاقة وبراعة أخاذة أن يستخدم أدواته الفنية ويوظف مفرداتها البصرية من تكوينات وأحجام كادرات وزوايا التصوير وحركة الظل والنور وحركة الممثلين وتوجيهه لتفاصيل الأداء، فحقق مستوى لا يبارى من الصدق والجمال والصياغة المبهرة للتفاصيل الدقيقة الموحية الجذابة والإحساس المرهف بعنصرى الزمان والمكان.. لقد روّض طبيعة البحر العاصفة وأمسك بتلابيب سحر المكان والزمان داخل المكان الضيق المحدود داخل السفينة وخارجها، حيث البحر الطاغية المخيف الواسع المترامى.. وأثبت أن الفن الحقيقى الراقى يضيف إلى الطبيعة الهوجاء رونقا خلابا وجاذبية آسرة ورؤية ممتعة.
نقلا عن المصرى اليوم