فرانسوا باسيلي
قطع أوباما حملته الإنتخابية المحمومة في اسبوعها الحاسم الأخير وجاء إلينا هنا في نيو جرسي ليستقل طائرة هليوكبتر في صحبة حاكم الولاية الجمهوري كريس كريستي تفقدين الأحياء التي تضررت من إعصار "ساندي" الهائل. وكانت الحكومة الفدرالية والحكومات المحلية علي مستوى الولاية والمقاطعة والمدينة قد أقاموا إستعدادات كبيرة قبل وصول الإعصار بثلاثة أيام، وكان علماء الطقس قد حددوا بدقة كبيرة وقت ومكان وصول ساندي إلي المنطقة مما أدي إلي تفادي الالاف من الأرواح والاصابات، فكانت الوفيات أقل من ستين، وبدون الرصد العلمي والادارة الدقيقة للكارثة الطبيعية لكانت الوفيات بالآلاف. وعد اوباما بأن يكون رد هيئة الاغاثة الفدرالية لكل طالب معونة في غضون خمسة عشر دقيقة. أما حاكم الولاية فقد أكد "نعم نشعر بالحزن، ولكن لن يحل حزننا محل عزيمتنا واصرارنا".
وهذه هي شهادتي وتجربتي الشخصية عن تلك الأيام العصيبة:
جاءت ساندي إلينا هنا في نيو جرسي ثم ذهبت، ولم تذهب آثارها بعد.
ساندي المرأة الإعصار.. وهل توجد إمرأة ليست إعصارا؟
جاءت ساندي هائجة مائجة..تعصف وتقذف..تدوي وتلوي، تضرب وتخلع وتلقي وتبعثر، ساندي المرأة المجنونة الغضب، الجنية محلولة الشعر تضرب به كل ما يعترض طريقها من مدن وقري.. بنايات وأشجار.. طرق وجسور، تصب علي الجميع أهوالا من أمطار وانهار ورياح وإعصار، ضربت بالجنون كل شيء فلم تعد شجرة تقف في مكانها في هدوء، جنت الأشجار فراحت تتطوح بكل أغصانها وجذوعها في الهواء صارخة مولولة في هلع لم تعرفه من قبل.. فاذا كان الشجر يصرخ فماذا يفعل البشر؟ رحت أنظر من وراء زجاج النافذه في ليلة ليلاء لم نعرف إن كان سيظهر لها صبح..أراقب الطبيعة في أوج هياجها، سماء ملبدة ورياح بلا عقل، قوي الطبيعة وقد انطلقت من عقالها فلا يردعها شيء. مشهد مهيب لكون خرج عن طوره وراح يصب جام غضبه علي أرض البشر، المطارات اغلقت والطائرات هربت من المنطقة برمتها، الانهار فاضت عن حاجتها وغمرت الأرض بأمتار من المياه و كأننا في أيام الخلق الأولي، فأغرقت السيارات والطوابق السفلي من المنازل، الكهرباء قطعت والبرد يزحف ليضرب العظام... تري كم سيطول إنقطاع الكهرباء؟ وهل سيصمد الطعام في الثلاجة ونجد ما يكفينا حتي عودة الحياة لطبيعتها؟ وماذا إذا لم تصمد النوافذ الزجاجية الكبيرة لضربات الرياح الصارمة وانهارت الألواح الزجاجية لتكتسح الرياح كل من وما بالمنزل؟ هل يصبنا مكروه؟ هل نخسر كل ما نملك في ليلة واحدة؟ المخاوف الغريزية تصبح حول امكانات البقاء وسبل تأمينه، الظلام يعم المدينة التي كانت تتلألأ بالنور، لا تلفون ولا انترنت، نعود إلي الحياة في بدائيتها فنكتشف اننا قد اصبحنا نعتمد علي الكهرباء في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الحياة، وأن الحياة بلا كهرباء تصبح بالغة الصعوبة والفقر والكآبة.
ساندي تخلع البيوت من قواعدها وتلقي بها إلي البعيد.. تنزع الأسقف عن الحجرات فيتعري الأثاث وتتبعثر حوائج الناس، السيارات تسبح في الشوارع المغطاة بالمياه وكأنها قوارب.
سيارات الإطفاء والبوليس تهرع لتلبية صرخات الإستغاثة، كانت تعليمات حاكم الولاية لسكان المناطق المنخفضة أن ينزحوا عنها فنزح الكثيرون ورفض البعض.
في حديقة منزلي شجرة بارتفاع طابقين وجدتها راقدة علي جنبها وقد انتزعتها ساندي من ارضها ومزقت جذورها.. سقطت الشجرة فجأة كما يسقط الانسان، ماتت كما يموت، حزنت عليها كما أحزن علي كل وداع.
ورغم كل مساويء ساندي، فهي ليست خالية تماما من الفضائل، فصحيح أنها هوجاء وعمياء، لكنها عادلة تماما، فهي تدمر مساكن الأثرياء بنفس الحماس الذي تدمر به مساكن الفقراء، وتحطم بيوت المؤمنين وغير المؤمنين، المسيحيين والمسلمين واليهود، البوذيين والكنفشيسين، المورمون وشهود يهوه، لا تفرق إستنادا علي دين أو مذهب أو جنس أو لغة، الكل بشر في عرفها، الكل سواء في عدالة ومساواة ومواطنة إنسانية كاملة، هي في هذا أعقل من معظم البشر الذين فرقتهم المذاهب والمعتقدات والأفكار والسياسات. ساندي المجنونة أعقل من سكان المسكونة.
اليوم هو الرابع بعد ذهاب ساندي، أطلت الشمس برأسها علي استحياء، وخرجت السيارات إلي الشوارع، وراحت الحياة تدب ببطء من جديد، الانسان كائن هائل رغم صغره، جبار رغم ضعفه، لا يستسلم ولا ينهزم، ينهض من كل كبوة ومصيبة فإذا به أقوي مما كان قبلها، يتعلم من تجاربه، يتحايل علي واقعه ويعود لمحاولته الأبدية في السيطرة علي الطبيعة وترويضها لصالحه، الكون هائل والانسان هائل لأنه يحمل الكون في خلايا عقله وفي مخيلة أحلامه الشاهقة.
طوال الأيام الأربعة الماضية، أحاول أن أتصل بالاصدقاء للإطمئنان علهيم، وهم يتصلون ليطمئنوا، الكثير من شبكات الموبايل لا تعمل، نعاود الإتصال حتي ننجح، تأتينا مهاتفات من الاحباب في ولايات أخري، في بلاد أخري، من مصر، من الأردن، من إستراليا، هي ورود المحبة تهديها قلوب جميلة دافئة، الجيران يساعدون بعضهم بعضا، القادرون يمدون يد العون للمحتاجين.. "الناس لبعضيها"، يقول المثل المصري الحكيم.
نعم الناس لبعضيها، كأنها آية لم تأت في نص مقدس ولكن قالها الناس ببساطة بليغة، "الناس لبعضيها" هي خلاصة التجربة الانسانية في أجمل تجلياتها.
ساندي جاءت وذهبت مخلفة لنا علاماتها المؤلمة و دروسها المفحمة، وتظل الحياة بنا تدور.