القمص يوحنا نصيف
يشرح القدّيس كيرلّس السكندري عمود الدين هذه العبارة التي قالها الربّ يسوع للقدّيسة مريم المجدليّة في صباح يوم قيامته من بين الأموات، بطريقة لاهوتيّة وروحيّة جميلة وشاملة.. إذ يقول:
لنتأمّل كيف أنّ كلمة الله، الابن الوحيد، جاء بيننا، لكي نصير نحن مثله، بقدر ما تحتمل طبيعتنا أن تبلغ إلى هذا المستوى، من جهة خلقتنا الجديدة بالنعمة. لأنّه وضع نفسه لكي يرفع ما هو وضيعٌ أصلاً (الإنسان) إلى مقامه العالي الخاصّ به.
لبس صورة عبد، رغم أنّه بالطبيعة هو الربّ وابن الله، لكي يرفع ذلك الذي كان مستعبدًا بالطبيعة (الإنسان)، إلى كرامة البنوّة، جاعلاً إيّاه على شبهه الذاتي، وعلى صورته. كيف وبأيّ معنى؟
إنّه عندما صار واحدًا مِنّا كإنسان، لكي يجعلنا نحن أيضًا نصير مثله، أي آلهة وأبناء، فإنّه يأخُذ ضعفاتنا في ذاته، ويعطينا صفاته الخاصّة.. وهذا ما سأشرحه على قدر ما أستطيع.
أوّلاً، رغم أنّنا عبيد بالرتبة والطبيعة، لأنّ المخلوقات هي تحت سلطان خالقها، فهو الآن يدعونا إخوته، وجعل الله الآب هو الأب المشترَك له ولنا. ولأنّه جعل البشريّة خاصّة به باتّخاذه شكلنا لنفسه، فإنّه يدعو إلهنا إلهًا له، بقوله "إلهي"، رغم أنّه ابنه بالطبيعة؛ وذلك لكي نرتفع نحن إلى كرامته الفائقة العظَمة، بمشابهتنا له، فنحن لسنا أبناء لله بالطبيعة، بل هو الابن الذي يصرخ في قلوبنا بروحه: يا آبا "الآب" (غل4: 6).
لذلك، لا تُعثَر عندما تسمعه يدعو الله إلها له بقوله "إلهي"، بل بالحريّ تأمَّل كلماته بروح مستعدّة للتعلُّم، وتأمَّل معانيها بانتباهٍ. فهو يقول أنّ الله أبوه، وإنّه إلهنا أيضًا، وكِلا القولين صحيح. لأنّ إله هذا الكون هو بالحقّ أب المسيح، ولكنّه ليس أبانا بالطبيعة؛ بل بالحريّ هو إلهنا، لأنّه خالقنا وربّنا الذي له كلّ السيادة. ولكن الابن، إذ وحَّد نفسه بنا بتجسّده، فإنّه منح لطبيعتنا الكرامة التي له وحده، ودعا ذلك الذي وَلَدَهُ (أي الله الآب) أبًا مشترَكًا له ولنا..
ومن الجهة الأخرى، فهو باتّخاذه شكلنا، فإنّه يَقبَل في نفسه ما يختصّ بطبيعتنا، فهو يدعو أباه "إلهي"، لأنّه بسبب غِنى محبّته ورحمته على جنس البشر، لم يشأ أن يحتقر صورتنا التي اتّخذها لنفسه..
إن كان الابن قد وضع ذاته "مستهينًا بالخزي" (عب12: 2)، وصار إنسانًا لأجلك، فإن رفضتَ تواضعه فإنّك ستُدان على ذلك. أمّا هو الذي اتّضع لأجلك، فإنّ الكرامة الواجبة له هي عظيمة بلا حدود..
لذلك، إذ هو كاملٌ ومكتفٍ بذاته كليّةً كإله، فإنّه وضَع نفسه لأجلك وصار في شبهك، ورغم أنّه مُمَجَّدٌ مجدًا عاليًا كابن الله ومولود من ذات جوهر الآب، فإنّه أنزلَ نفسه، إذ أخلى ذاته من صفات مجده الإلهي، بقدر ما تسمح طبيعته الإلهيّة بذلك.
هو إله وإنسانٌ معًا، إذ هو فائق المجد بسبب أصله الإلهي، لأنّه إله من إله والمولود الحقيقي من أبيه. وهو أيضًا وُضِعَ لأجلنا، لأنّه صار إنسانًا لأجلنا.
إذن، فلتهدأ نفسك حينما تسمعه يقول: "أصعَد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم" (يو20: 17). فمن اللائق جدًّا، بل والصواب تمامًا، أنّه وهو بالطبيعة الإله وابن الله، أن يقول عن ذلك الذي ولده أنّه "أبوه". ولأنّه إنسانٌ مثلنا فيحقّ أن يقول عن الله أنّه "إلهه"..
[عن شرح إنجيل يوحنّا للقدّيس كيرلّس السكندري (المجلّد الثاني 2012) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد