أثناء ثورة 1919، انتشر أن حقلًا للفول فى الفيوم ظهرت به قرون الفول مكتوب عليها اسم سعد زغلول، وفى محافظة الشرقية ولد طفل وبدلًا من أن يصرخ صرخة الميلاد صاح: «يحيا سعد» طوال فترة الثورة، خاصة فى فترة نفى سعد باشا، انتشرت أمور من هذا النوع، وقعت فى العديد من المديريات (المحافظات).
 
يعرف المؤرخون أن ذلك كله مبالغات لا بأس بها.. الباحثون والدارسون لا يتعاملون مع مثل هذه الأمور بمنطق الصدق أو الكذب، أى ليست مجرد أخبار وقعت وأفردت لها الصحف الكبرى مساحات بارزة، لكنها تتخذ دليلا على مكانة الزعيم وتعلق الرأى العام به وسيطرة فكرة وهدف الثورة منهم.
 
لا تضيف مثل هذه الحكايات إلى سعد زغلول ولا تنتقص منه القول إنها وقائع أو حكايات متخيلة.. الآن، لا أحد يذكرها أو يشير إليها مهما كان مدى تقديره لزعامة ودور سعد زغلول، هى تعبير عن احتياج الناس فى لحظات ومواقف معينة إلى رمز وطنى وإنسانى يساعدهم على الاستمرار والصمود ومواجهة الموقف الصعب وتحمل قسوته.
 
عموم الناس يكونون بحاجة إلى التماسك والإصرار على قضيتهم وهويتهم الوطنية والإنسانية، خاصة إذا كانوا إزاء خصم وظرف أقوى منهم.. شعب أعزل يواجه بصلابة الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، القوة العظمى فى زمانها وفى ذروة انتصارها.
 
بهذا المعنى يمكن أن نفهم الكثير من الحكايات المشابهة بالنسبة لعدد من الزعماء والشخصيات التاريخية، مثل انتشار حوار السادة وعبيد الإحسانات بين أحمد عرابى والخديو توفيق أمام قصر عابدين، ظهر الحوار بعد هزيمة عرابى ومحاكمته ثم الحكم عليه بالإعدام (تم تخفيف الحكم إلى النفى)، الحوار ينفى عن عرابى وثورته الكثير من الاتهامات والتشنيع عليه، مثل أنه ومَن معه كانوا سبب الاحتلال البريطانى.
 
المخيلة الوطنية والشعبية يمكن أن تعوّل على أحد الزعماء والرموز، تضيف إليه مواقف وأحداثا، تجعل صورته مثالية، بل أسطورية، المهم أن تكون هناك مقومات وحيثيات فى الشخصية التى راهن عليها الضمير العام.. لا تقف المخيلة عند الزعامات السياسية والوطنية فقط، بل تمتد إلى العديد من جوانب الحياة.. المهم أن تلبى الشخصية احتياج الرأى العام ورجل الشارع فى جانب ما.
 
فى الفن، نجد الكثير من الحكايات التى أضيفت إلى أم كلثوم تصوّر كفاحها ومعاناتها الشديدة فى بداية الطريق ثم مدى النعيم والنفوذ الذى وصلت إليه.. لاحظ أنه لم يكن ثمة حقد عليها ولا حسد لها، لم يسأل أحد: من أين لها كل هذا؟.. كان هناك قدر من الرضا والشعور بأنها تستحق، ما لديها بمجهود وتعب.
 
فى التسعينيات، قدم التليفزيون الرسمى فيلم كرتون للأطفال عن فنان الشعب سيد درويش، وفى لقطة الوفاة جاءت العبارة التالية فى تفسير وفاته شابًّا «بيقولوا الإنجليز سمّوه.. وناس تانية قالوا الملك فؤاد».. الذين درسوا حياة سيد درويش يعرفون أن الملك فؤاد لم يكن ضد ثورة ١٩، ولا ضد سيد درويش، أقصى ما فعله مع بيرم التونسى الذى مسّ عرض زوجة الملك أن نفاه من البلاد.. الإنجليز كانت لهم أساليب أخرى، لم يدسوا السم لزعيم الثورة المصرية، قاموا بنفيه.
 
بعيدا عن الفن والجانب الناعم فى المجتمع.. تأمل- مثلًا- «خط الصعيد» وحكايات عنه لا تنتهى.. تصور مدى قدرته على ارتكاب أشد الجرائم عنفا وقدرته على الإفلات ثم سقوطه المدوى.
 
وقد يتصور البعض أن «أسطرة» بعض الزعماء والشخصيات المؤثرة وقفٌ على بسطاء وعموم المواطنين، الواقع أنها تمتد إلى بعض النخب وصفوة المتعلمين، حيث يشاركون عموم المواطنين فى كثير مما يخص الزعماء والرموز الوطنية، مع فارق أن الإحساس يكون عفويا وتلقائيا لدى عموم المواطنين، لكن بعض النخب يجعلونها نظرية أو «حقيقة علمية».
 
عموم المواطنين تتحرك مخيلتهم، ويمضى وجدانهم مع شخصيات قدمت شيئا بالفعل ملموسا لهم، وثبت إخلاصهم وصدقهم للقضية التى تشغلهم، حتى لو لم يحالفهم النجاح، حين التهب وجدانهم مع سعد زغلول لم تكن الثورة حققت أى إنجاز فعلىّ للقضية الوطنية، وكان سعد منفيًا، حياته مهددة، لكن يكفيهم منه أنه رفع المطلب الوطنى أمام سلطة الاحتلال وعرّض حياته للخطر، لم يمنعه تضعضع صحته وكبر سنه ولا خاف على مكانته السياسية والاجتماعية.
 
مصطفى كامل لم يحقق شيئا فى استقلال مصر وتخلصها من الاحتلال البريطانى، نجح- فقط - فى إزاحة لورد كرومر بعد مذبحة دنشواى التى كان يقف خلفها، وهذا النصر (الصغير) يفتح الباب لإمكانية تحقق النصر الكبير بالاستقلال.. هذا يكفيهم منه.. حين توفى أقاموا له جنازة أذهلت البريطانيين وأعوانهم هنا.
 
عرابى وقع فى العديد من الأخطاء الكبرى وفشل، لكنه كان وطنيًا ومخلصًا، تحدى غطرسة الشراكسة، وتحدى المطامع البريطانية، لذا راحوا يحمون صورته داخلهم رغم الهزيمة، تعاطفوا معه وبرّأه مما حدث «الولس كسر عرابى».
 
يمكن أن نرى شيئا مشابهًا مع الرئيس جمال عبدالناصر عقب هزيمة يونيو ٦٧ مباشرة، الخروج الأسطورى إلى الشوارع يومى التاسع والعاشر من يونيو رفضًا لقراره التنحى، ثم وداعه الأسطورى أيضا سنة٧٠ إلى مثواه الأخير.
 
الآن نعرف آن تحرك الجماهير كان الأصوب، على عكس الذين طالبوا فى مجالسهم بأن يخرج عبدالناصر بالهزيمة ويأتى مَن يرفع الراية البيضاء ويتفاوض مع «العدو»، لحظة هزيمتنا.
 
هذه الحالة ليست مرتبطة بتاريخنا الحديث والمعاصر فقط، عرفناها قبل ذلك فى مراحل وحالات عديدة.
 
السلطان طومان باى، الذى واجه الغزو العثمانى للعمق المصرى، وأعدمه الغازى سليم الأول، طومان - فعليا- لم يحكم ولا جلس على كرسى السلطنة، تولى المسؤولية بعد مقتل السلطان الغورى أثناء المعركة، وكان عليه أن يواصل القتال، وباع المماليك أنفسهم إلى سليم.
 
وبقى هو فى الميدان صلبًا يدافع عن استقلال مصر، بكاه المصريون بحرقة وحزنوا عليه، شنقه سليم يوم الجمعة على باب زويلة، فأطلقوا على ذلك اليوم «الجمعة الحزينة»، وانطلق الخيال الشعبى حول عدل طومان باى واعتبروه مبروكا، ومنحوه من ألقاب التعظيم الكثير، سجل لنا المؤرخ العظيم ابن إياس الكثير منها.
 
وإذا عدنا إلى فترة الحروب الصليبية، خاصةً تلك التى كانت فى دمياط والمنصورة، سوف نجد العديد من هذه المواقف والحالات.. أما عبدالرحمن الجبرتى فقد قدم لنا بانوراما واسعة لأسطرة بعض الشخصيات السياسية والاجتماعية، أحيانا كان ذلك يحدث عمدًا للتكسب والتربح المادى المباشر، مثل ذلك المواطن الذى كانت لديه ماعز، زعم أنها تنطق وتكشف أسرار وخبايا البعض ويمكن أن تحل لهم أزماتهم المستعصية.
 
طبقا للجبرتى، احتال صاحب الشرطة على الرجل حتى ذبح الماعز وقدمها له مشوية، تلك كانت نهاية الأسطورة التى شغلت المجتمع القاهرى شهورًا، كوّن صاحبها ثروة كبرى من «بركات» الماعز.. باختصار، فإن بعض أو معظم الدجالين فى المجتمع، رأسمالهم هو اختلاق بعض الأساطير حول شخص بعينه، يقدمونه على أنه «مبروك» أو «مكشوف عنه الحجاب»، وقد تختلق الأساطير-يمكننا القول الأكاذيب - حول حيوان أو طائر ما. بعض هذه الحالات والنماذج لاتزال تظهر بين الحين والآخر.
 
وقد يتصور البعض منا أن تلك الأمور خاصة بنا نحن، وتبدأ عملية جلد الذات التى يجيدها بعضنا. فى كل ثقافة ولدى كل شعب سوف نجد مثل ذلك سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، كان المصريون يهبّون ضد الاحتلال البريطانى سنة ١٩١٩، حتى صدور تصريح ٢٨ فبراير ٢٢، الذى أقرت فيه بريطانيا بإسقاط الحماية عن مصر واستقلالها.
 
كان الزعيم الهندى «مهاتما غاندى» يقود ثورة الهنود السلمية ضد الاحتلال البريطانى نفسه، هناك أطلق الهنود على زعيمهم لقب «النبى» ومنحوه صفات الأنبياء، ونسبوا إليه الكثير من الإعجاز، الأستاذ العقاد كتب عنه مقالًا مطولًا فى سبتمبر ١٩٢٢ سماه «النبى الهندى»؛ النبوة هنا بالمعنى اللغوى والمجازى، وليس المعنى الدينى، غاندى قادهم إلى الاستقلال، ثم اغتاله أحد المتعصبين الهندوس سنة ٤٨ بسبب تسامحه مع المسلمين الهنود.
 
فى بعض الأوقات وفى الظروف الضاغطة وطنيًا وسياسيا، يتم الرهان على شخصية ما، وتجرى محاولة أسطرة للبعض، ثم قد يخيب الرهان، غالبا يصدر ذلك عن بعض النخب السياسية والثقافية، حدثت محاولات من هذا النوع سنة ٢٠١٠ وحتى سنة ٢٠١٢. فى أثناء ثورة يناير ٢٠١١، جرت محاولات لتخليق زعامة لها كما حدث فى الثورات السابقة، لكن فشلت المحاولات وخابت الرهانات.. مَن جرى الرهان عليهم (نخبويًا) لم يقدموا شيئًا مما توقعه البعض منهم، فطويت صفحاتهم.
 
علميًا، تُبنى الأسطورة على أساس من الواقع وقدر من الحقيقة، ليست خيالات مطلقة وأمنيات فى الفراغ.
 
المهم فى تعاملنا مع الزعماء والرموز التاريخية فى مختلف المجالات أن نكون قادرين على التمييز بين الوقائع والأحداث التى جرت وما هو من الخيال الشعبوى والأسطورى، الذى ارتبط بلحظة وموقف بعينه.. استبعاد ما هو من الخيال العام لا ينتقص من أى شخصية ولا يسحب من دورها ورصيدها، كما أنه لا يفقد الرمز الوطنى رمزيته، لكن فى كل الأحوال لا قداسة للأسطورة.
نقلا عن المصري اليوم