كمال زاخر
[4] ـ شاول الفريسى وحال الكنيسة قبل دخوله الإيمان
مابين سفر الأعمال ورسائل بولس المتعددة يلتقط الكاتب من لسان بولس نفسه تعريفاً دقيقاً لخلفياته الفكرية وتوصيفه لنفسه وموقفه الواضح من الكنيسة، التى كان يضطهدها بإفراط ويتلفها،فيما كان يتقدم فى الديانة اليهودية متقدماً على رفقاءه، لكن اللافت قوله أنه "حسب مذهب عبادته الأضيق عاش فريسياً".
ويعرفنا الكاتب ـ فى هامش مطول ـ على جماعة الفريسيين؛ النشأة والمبادئ، فهى تجمع بين القدرية وبين حرية اختيار الإنسان، ويذكرهم سفر ملاخى بأنهم "متقو الرب"، فيما يشير اليهم مزمور 119 أنهم ذوو تقوى وغيرة على وصايا الله، وكلمة "فريسى" من اصل قريب من كلمة "يفرز" و "فرًيز"، (فرِّيز = فريزى = فريسى)، وهى تعنى تماماً جماعة المعتزلة، بمعنى اعتزالهم كل ما هو غير طاهر، سواء كان أخلاقياً أو فى العبادة، وهذا يعتبر الجانب السلبى للقداسة التى اعتبروا انفسهم أنهم إليها مدعوون، وفى عرفهم أن الله قدوس بمعنى معتزل أو مفروز، وهم أشد ما يكون حرصاً على حفظ السبت وتجنب الأطعمة المحرَّمة بكل تدقيق، وهم الذين أضافوا على الناموس تعاليم ووصايا، وجعلوها فى مقام الناموس، والرب وبخهم على ذلك إذ حمَّلوا الناس أحمالاً عسرة وألزموهم بوصايا هى تعاليم الناس، وكان تشددهم مثار اعجاب جموع الشعب. ولعل هذا يفسر سر عدائهم للمسيح.
وفى رسالته لأهل غلاطية يذكر ق. بولس أنه كان "أوفر (أكثر) غيرة فى تقليدات آباءه"، ويربطها الكاتب بما كتبه ق. بولس فى رسالته لأهل فيلبى "من جهة الناموس فريسى، من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة من جهة البر الذى فى الناموس بلا لوم"، وكانت ملاحظة الكاتب أن ق. بولس "يحاول أن يوضح أن الفريسية هى التى دفعته لكل هذه الأعمال الجنونية، ويدعم هذه الملاحظة باعتراف ق. بولس نفسه بحسب ما سجله سفر الأعمال "فَأَنَا ارْتَأَيْتُ فِي نَفْسِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَصْنَعَ أُمُورًا كَثِيرَةً مُضَادَّةً لاسْمِ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ. وَفَعَلْتُ ذلِكَ أَيْضًا فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، آخِذًا السُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذلِكَ (لتعيين من الذى يبدأ بالرجم). وَفِي كُلِّ الْمَجَامِعِ كُنْتُ أُعَاقِبُهُمْ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَأَضْطَرُّهُمْ إِلَى التَّجْدِيفِ. وَإِذْ أَفْرَطَ حَنَقِي عَلَيْهِمْ كُنْتُ أَطْرُدُهُمْ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي فِي الْخَارِجِ.
ثم يعرض الكاتب كيف يصير اليهودى فريسياً، عبر تحفظات وقيود سلوكية ومحاذير وخوف "تجعله فى حالة استنفار ويقظة بل وربكة ذهنية كفيلة أن تشل عقله، وهكذا تتلف حواسه الأخلاقية الطبيعية ... وهكذا تضمحل روح العبادة فى خضم الشكليات، وتذوب حاسة التقوى الروحية الصحيحة... لذلك فالفريسية تُغذى النفس بروح الذاتية والغطرسة، بخداع الذات والرياء."
ويكشف الكاتب سر عنف ق. بولس، قبل مقابلة الرب يسوع، وهو فشله فى تأدية الواجبات المفروضة عليه "هنا يشعر بالفراغ ولا يعوضه إلا التظاهر وإتيان الأعمال العنيفة والغيرة الزائدة لإرضاء ضميره، كالإضطهاد والتعنيف وملاحقة الخطاة ـ فى نظره ـ الذى نسميه فى علم النفس مُركَّب النقص ..."، وهو عين ما شعر به ق. بولس فصرخ "ويحى أنا الإنسان الشقى! من ينقذتى من جسد هذا الموت"... فالفريسية أوقعته فى صراع بين سروره بناموس الله وقيود والزامات الناموس بحسب اضافاتهم وأثقالهم.
وعندما تدرك استنارة المسيح ذهن وقلب ق. بولس ينتفض فى مواجهة ازدواجية الفريسيين وخداعهم "الَّذِي تَكْرِزُ: أَنْ لاَ يُسْرَقَ، أَتَسْرِقُ؟ الَّذِي تَقُولُ: أَنْ لاَ يُزْنَى، أَتَزْنِي؟ الَّذِي تَسْتَكْرِهُ الأَوْثَانَ، أَتَسْرِقُ الْهَيَاكِلَ؟ الَّذِي تَفْتَخِرُ بِالنَّامُوسِ، أَبِتَعَدِّي النَّامُوسِ تُهِينُ اللهَ؟ لأَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ."
قبل أن يستطرد الكاتب فى تتبع دخول بولس إلى دائرة الإيمان يتوقف بنا عند حال الكنيسة آنئذ، فى سعيه أن يتعرف على ما حدث بعد موت الرب، إذ بادر يوسف ونيقوديموس بإنزال الجسد من فوق الصليب، فيما كان رؤساء الكهنة واتباعهم يشعرون براحة التخلص ممن علق نفوسهم على مدى ثلاث سنوات ويزيد، متأرجحين فيها بين المبادرة برجمه، والتخلص منه، وبين أن يجدوا عنده اجابة لأسئلتهم الحائرة، من يكون؟.
جاء موت المسيح على الصليب ودفنه ليؤكد عند قاتليه أنه مدَّعى، لأن الناموس عندهم يقول أن المسيا لا يموت «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»
لكن قيامة المسيح صبيحة الأحد جاءت لتعيد الأمور إلى صحيحها، فقد قام من الموت "إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ" بحسب تعبير ق. بطرس فى يوم الخمسين، وتتوالى ظهورات الرب القائم لتلاميذه مرات عديدة، ولمدة اربعين يوماً، ويأتى ق. بولس ليوجز هذا كله فى سطور قليلة فى رسالته الأولى لأهل كورنثوس "فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا. 9لأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ." وهو ما كتبه ق.لوقا فى مستهل سفر الأعمال "اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ.".
ينبهنا الكاتب إلى "أن الإيمان المسيحى لم يبدأ بـ "القيامة" كبرهان أن يسوع هو المسيح ابن الله، لكن القيامة كانت خاتمة أو حصيلة تجليات سابقة واستعلانات متوالية" يورد منها :
* لقاء المسيح مع نثنائيل "أجاب نثنائيل وقال له: يامعلم أنت ابن الله، أنت ملك اسرائيل"، فيجيبه المسيح " سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هذَا!» 51وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ».
* اعتراف بطرس فى أوائل أيام اتباعه للمسيح "فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ:«أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!». وكان رد المسيح عليه أيضاً وعلى نفس مستوى نثنائيل هكذا: "طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا.". ويعلق الكاتب "معنى قول المسيح هو أن اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله إنما جاء بإعلان مباشر من الله، ثم تأكيد المسيح أنه سيبنى كنيسته على هذه الصخرة أى على صخرة الإيمان القائم على الاستعلن السماوى".
* كذلك فى أول آية صنعها المسيح فى انجيل يوحنا بتحويل الماء إلى خمر، يشير إلى ذبيحته المستقبلة، يقول ق. يوحنا هكذا " هذه بداية الآيات التى فعلها يسوع فى قانا الجليل وأظهر (استعلن) مجده".
* وتتكرر الآيات والمعجزات حتى نصل إلى إقامة لعازر من الموت بعد اربعة أيام فى القبر، وهى فى مجملها تشير بقوة إلى الاستعلان الذى تحمله نحو لاهوته :«أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، 26وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيًّا وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهذَا؟» قَالَتْ لَهُ:«نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ».
ويأتى حلول الروح القدس ليمنح الكنيسة قوة خاصة لأنه "روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ... ويعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم ... ويمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم ... وهو يشهد لى وتشهدون انتم أيضاً".
ويواصل الكاتب توضيح "القيمة الفعلية الثمينة لمعنى أخذنا الروح القدس أخذاً فعلياً، بمفهوم (عربون خلاصنا)، الذى نعيشه الآن جزئياً لنحياه هناك كلياً".
ويوضح الكاتب كيف ابتدأت الكنيسة تنمو وتمتد بسرعة هائلة، وبدايات ظهور كنيسة الأمم، بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، ودور استفانوس أول شهيد فى المسيحية ودفاعه وجسارته فى مواجهة رؤساء الكهنة وأعضاء المجمع آنذاك، لينتهى الأمر بقتله "إستشهاده".
وفى كلمات قليلة يوصِّف الكاتب معنى كلمة شهيد؛ "ويلذ لى أيها القارئ أن تعلم أن كلمة "شهيد" بمعنى شَهَدَ للمسيح تحت الموت وشاهده قد نحتت أول ما نحتت وأطلقت أول ما أطلقت فى المسيحية على القديس إستفانوس (أنظر أع 20:22: "استفانوس شهيدك").
يعود الكاتب ليقترب من شاول المضطهِد للكنيسة وهو ما نتناوله فى المقال التالى.