الأقباط متحدون - الخطيـئة لا تولــد معنــا
أخر تحديث ١٥:٠٠ | الجمعة ٢ نوفمبر ٢٠١٢ | ٢٢ بابة ١٧٢٩ ش | العدد ٢٩٣٢ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

الخطيـئة لا تولــد معنــا

بقلم: مهندس عزمي إبراهيم
معظمنا قرأ للكاتب إحسان عبد القوس بعضاً من قصصه ورواياته
.  وقبل أن أدخل في صلب موضوع مقالي أود أن أطرح نبذة عن حياة هذا الكاتب المصري القدير. وليعذرني القراء، فربما حجم النبذة ليس بقصير، ولكني أرى لزوم ذلك. أطرح تلك النبذة عن احسان عبد القدوس لا لعلاقة بينه وبين مقالي سوى في فكرة واحدة اخترتها من عديد أفكاره الحيوية التي أحسبها له، وهي جملة من ثمان كلمات كانت جوهر إحدى قصصه. جملة أحببتها وقدَّرت مدلولها ومغزاها منذ وقعت عيناي عليها في صباي فلم تفارق ذهني وذاكرتي حتى اليوم. هذا طبعاً علاوة على إعجابي باسلوبه الشيق السلس في كتاباته الرشيقة والواقعية عامة، وشجاعته في طرحها رغم هجوم الجاهلين المتشددين والمنافقين الذين يعيشون ويمارسون "حيـــاة" ويحاربون من يكتب عنها. أقدِّره لأنه كتب ما يؤمن به ولم يرع اهتماماً لأصوات المتأخرين مغلقي العقول. كان صريحاً جريئاً مصداقاً، وكانوا سطحيين زبانية زيف ونفاق!!

إحسـان عبـد القـدوس: الأديـب والإنسـان

ولد إحسان عبد القدوس في 1 يناير 1919 وتوفي في 12 يناير 1990، وهو ابن السيدة روز اليوسف واسمها الحقيقي فاطمة اليوسف من أصل لبناني، وهي مُؤسسة مجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير. أما والده محمد عبد القدوس فقد كان ممثلا ومؤلفا. ويعتبر إحسان من أوائل الروائيين العرب الذين تناولوا في قصصهم الحب البعيد عن العذرية، أي الواقعيــة. ويمثل أدب إحسان عبد القدوس نقلة نوعية متميزه في الرواية العربية، إذ نجح في الخروج من المحلية إلى حيز العالمية وترجمت معظم رواياته إلى لغات اجنبية متعددة.

كان إحسان عبد القدوس صحفيا وروائيا شارك باسهامات بارزة في المجلس الأعلى للصحافة ومؤسسة السينما. فإنتاجه الأدبي: وصل إلى أكثر من ستمائة قصة وقدمت السينما عدداً كبيراً من قصصه، 49 رواية تم تحويلها إلى نصوص للأفلام، و5 روايات تم تحويلها إلى نصوص مسرحية، و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية، و10 روايات تم تحويلها إلى مسلسلات تليفزيونية، إضافة إلى 65 كتابا من رواياته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والأوكرانية والصينية والألمانية.

نشأ أحسان في بيت الشيخ رضوان جده لوالده، خريج الأزهر، فكان إحسان ينتقل وهو طفل من ندوة جده حيث يلتقي بزملاء من علماء الأزهر ويأخذ الدروس الدينية، وقبل أن يستوعبها يجد نفسه في أحضان ندوة أخرى على النقيض تماماً، وهي ندوة روز اليوسف. الأديبة المتحررة في ندواتها الثقافية والسياسية حيث يلتقي بكبار الشعراء والأدباء ورجال الفن والسياسة من مصر والعالم العربي. ويتحدث إحسان عن تأثير هذين النقيضين عليه فيقول: "كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه."

درس إحسان في مدرسة خليل آغا بالقاهرة، ثم في مدرسة فؤاد الأول بالقاهرة، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة. وتخرج منها عام 1942م. ويعترف إحسان بفشله أن يكون محامياً فيقول ضاحكاً: "كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محامياً لامعاً."

ويتحدث إحسان عن نفسه ككاتب عن الجنس فيقول: "لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس. فهناك المازني في قصة "ثلاثة رجال وامرأة"، وتوفيق الحكيم في قصة "الرباط المقدس". كلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت، فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسؤوليتي ككاتب. ونجيب محفوظ أيضاً يعالج الجنس بصراحة عني ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ أو لا يكتب، أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه ولا يحس أن القصة تمسّه أو تعالج الواقع الذي يعيش فيه، لذلك لا ينتقد ولا يثور. أما أنا فقد كنت واضحاً وصريحاً وجريئاً فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندي ما أكتبه عنه سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقات الشعبية دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى".

تولى إحسان رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف، وهي المجلة التي أسستها أمه وقد سلمته رئاسة تحريرها بعد ما نضج في حياته، وكانت لإحسان مقالات سياسية تعَرَّض للسجن والمعتقلات بسببها، ومن أهم القضايا التي طرحها قضية الأسلحة الفاسدة المفتعلة التي اتخذت حجة لهزيمة الجيش المصري عام 1948 في حين أنها وصلت مصرعام 1949، بعد عام من اتهاء الحرب، ولم ترسل للميدان، والتي نبهت الرأي العام إلى خطورة الوضع بمصر حكومياً وسياسياً، وقد تعرض إحسان للاغتيال عدة مرات، كما سجن بعد الثورة مرتين في السجن الحربي، كما أصدرت مراكز القوى قراراً بإعدامه.

ورغم ذلك فقد كرمته مصر مصر المتنورة رحبة الصدر، القادرة المُقَدرة للمواهب: فقد منحه جمال عبد الناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، كما منحه حسني مبارك وسام الجمهورية. وجدير بالذكر أن الأديب الأستاذ يوسف القعيد سأل احسان عبد القدوس في مقابلة لهما عن سر تجاهل النقاد لكاتب ال 600 قصة، فقال احسان:

"الواقع أنني أضع ظروفي الخاصة كسبب رئيسي لموقف النقاد مني. لقد نشأت كصاحب جريدة وكرئيس للتحرير وهذا أثر في موقف النقاد مني. لست مجرد كاتب قصة أو مجرد أديب. إذا مدحني أحد قيل إنه ينافق صاحب الجريدة ورئيس تحريرها، وقد كان النقاد الذين يكتبون في روز اليوسف يهاجمونني لهذا السبب. وأذكر أن فتحي غانم قد كتب مقالاً ضدي حيث إنه بدأ ناقداً في روز اليوسف، كان المقال ضد أحد قصصي. وقد هاجم هذه القصة بعنف شديد وقد أجزت نشر هذا المقال وسمحت بنشره فإذا بوالدتي روز اليوسف تصرخ وتثور لهذا التصرف وتقول كيف تسمح لأحد أن يهاجمك في مجلتك؟ ولكني قلت لها: إنني مؤمن بحرية النقد. ومع هذا كان هناك من كتبوا عني لقد كتب توفيق الحكيم، والدكتور لويس عوض، ويحيي حقي، كتبوا عني بصورة جيدة."

واسترسل مكملا حديثه: "في بعض الأحيان الأخري، كان النقاد يهاجمونني، أو يتجاهلون إنتاجي بسبب بعض الظروف السياسية. مثلاً اتهامي أنني كاتب جنس لم يكن قائماً علي دراسة لإنتاجي الأدبي، ولكنه ينطلق من موقف سياسي ضدي فأنا لا أتعمد كتابة الجنس أبداً، ومشاهد الجنس في قصصي ليست متعمدة، وهي أقل إثارة من مشاهد الجنس في كثير من القصص التي يكتبها كتاب آخرون، وعندما نوقشت روايتي «أنف وثلاث عيون» في مجلس الأمة المصري، كان الدافع لذلك سياسياً أيضاً وليس أدبياً. وأنا أعتقد أن طبيعتي هي التي تدفعني إلي التحرر الكامل عندما أكتب، وهذه الطبيعة جعلت لي لوناً غريباً عن اللون العادي من الكتاب ولهذا سيتطلب إنتاجي الأدبي وقتاً طويلاً حتي يجد من يقدم دراسة نقدية له."

مما يجدر بالذكر عن هذا الكاتب الكبير موقفا يحسب له ولشجاعته في الحق وحرية التعبير. فعندما سؤل إحسان عن تفاصيل معركة بينه وبين شيوخ الأزهر ووقوف الرئيس جمال عبد الناصر في صفه ضد شيوخ الأزهر، أجاب: "في سنة 1954 استطاعوا في الإذاعة أن يقنعوني بأن أقدم برنامجاً أسبوعياً كما كان يفعل فكري أباظة يرحمه الله، وكنت أتكلم كل أسبوع وأنهي كلامي بكلمة "تصبحوا علي خير وتصبحوا علي حب". فثار بعض المشايخ لأن كلمة الحب عندهم لا تعني سوي اللقاء الجنسي وكأني كنت أطلب من كل رجل وفتاة أن يمارسوا الجنس! ووصلت الضجة إلي عبد الناصر، ورغم أنه كان ضاحكاً وغير مقتنع بهذه الضجة التي أثاروها ضدي فقد عرض عليَّ أن أغير كلمة حب فتصبح تصبحوا علي محبة، فرفضت تغيير الكلمة وقلت له إنني أريد أن يتعود الناس علي المعني السامي والنظيف لكلمة الحب. وسمح لي عبد الناصر بأن أستمر فعلاً وكانت النتيجة أنه هو نفسه في خطبة يستعمل كلمة الحب لا المحبة، كما كان يكررها كثيراً السادات."

أكتفي بهذه النبذة عن احسان عبد القدوس، وآتي إلى صلب أو جوهر مقالي. أي الفكرة التي أوعزت إلي أن أكتب هذا المقال. فبغض النظر عن تصنيف أدب إحسان عبد القدوس من حيث فيه ما يرضي ملايين القراء وما ينفر الآخرين، ففي حناياه صور ولوحات ولمسات بديعية قيِّمة رائعة من واقع الحياة، عرضها بلا خفر ولا حياء ولا تمويه ولا غطاء مزيف، لأنها كانت الحقيقة حلوة أو مرة غير مغلفة ببرقع ولا متشحة بحجاب. في إحدى قصص هذا الكاتب الكبير كتب هذه الجملة الفلسفية ذات العمق الإنساني والمغزى الاجتماعي الصارخ: "الخطيئة لا تولد معنا، ولكن المجتمع يدفعنا إليها". جملة كما ذكرت في مقدمة مقالي، أحببتها وقدَّرت مدلولها ومغزاها منذ وقعت عيناي عليها في صباي فلم تفارق ذهني وذاكرتي حتى اليوم.

"الخطيـئة لا تولـد معنـا، ولكـن المجتمـع يدفعنـا إليـها"

إن الفوضى والغلظة والقسوة والعنجهية والصلف والاستعلاء شرارات نار شريرة تملأ جوانب مصر حتى نكاد نختنق من دخانها إن لم نحترق بنارها.  بل شُحِنَت بها نفوس الكثيرين من المصريين في كل منعطف من حياتنا.  ومن المسئول؟؟

إذا سمحنا لطفل في طفولته البريئة منذ خطواته الأولي في الحياة أن يستعمل العنف مع أطفال الآخرين، أقارب وزائرين، وأن يضربهم ويدفعهم، دون ردع أو نصح أو عقاب منا.  بل يقف من حوله الأب والأم والجد والجدة يضحكون فخورين بفوزه على هؤلاء الأطفال، قائلين: (شهم ابن شهم، دكر من ضهر دكر، ما يتـّاكلش، ما ينداسش عليه، ما يسيبش حقه.. إلى آخره) فسنكون قد وضعنا في نفسه تلقائياً من حيث لا ندري بذرة العنف والفوضى والغلظة على الآخرين وعدم احترامهم.  وستنمو هذه البذرة الكريهة إلى شجرة عنف وغلاظة وعنجهية واستعلاء في نفسية هذا "الغلبـان" مدى حياته. عقدة في طباعه سيقاسي منها.. كما ويقاسي المجتمع منه.

سيبدأ هذا الطفل "الغلبـان" تدريجياً في استعمال عضلاته النفسية والجسدية  باستعمال القسوة والضراوة والعنجهية والاستعلاء مع أطفال وصبيان الجيران، ومع زملائه أولاد وبنات في المدرسة وفي الشارع.  وسيمارس نفس الطباع مع أبناء عمومته.. ثم (ولا داعي للدهشة) مع اخوته،وزوجته وزملائه، بل وأحياناً مع أمه وأبيه.  ماذا نتوقع!!  لقد وضعنا البذرة السوداء في نفسه وهو طفل فصارت طبعاً من طباعه.

هذا هو الجاري في بلادنا كمجتمع: العنف والقتل والفوضى والعنجهية والغلظة والاستعلاء والصلافة والصفاقة والعفونة والدوس على الغير وعدم احترام الآخرين وحقوق الآخرين وآراء الآخرين.. معالمٌ مسموح بها ومتغاضٍ عنها (وأحيانا مباركة من بعضنا مكبرين باسم الله). معالم غرست بذورها في منازلنا وبرامج مدارسنا وفي مساجدنا حتى وصل الأمر الكريه المقيت كما نراه اليوم على رؤوس الجميع مسلمين ومسيحيين في شوارعنا وحوارينا، في أسواقنا ومياديننا، في مدننا وقرانا، في صحفنا وعلى فضائياتنا.. بل في كنائسنا ومساجدنا.

أقولها صريحة إن من يرتكب تلك الفواحش ضد الآخرين باسم الدين، يضرهم.. ولكنه من حيث لا يدري يضر دينه أكثر مما يضر الآخرين. فلو نظرنا إلى فاحشة ازدراء الأديان مثلا، نجد أن من يزدري أديان الآخرين يؤذي شعورهم (قطعاً)، ولكنه (قطعاً) يشوه نقاء دينه فالدين لا يدعو إلى الإساءة للآخرين وعدم احترام عقائدهم، علاوة على أنه بفعله يستجلب (قطعاً) ازدراء الآخرين لدينه بالمثل. فبازدراء شخص ما، مسيحي أو مسلم، لآديان الآخرين قد أساء لدينه، بل صفع دينه بأكثر من يـدٍ.

"الخطيئة لا تولد معنا ولكن المجتمع يدفعنا إليها" ترجمة صادقة لقول السيد المسيح: "الآباء يزرعون الحنظل، والأبناء يضرسون". يا ليتنا نفهم بدلا من اغلاق عقولنا وقلوبنا أن الشر الذي حولنا زرعناه نحن. زرعناه بذوراً نمت وتفرعت أشجاراً سوداء في بركة عفنة كانت بحيرة طيبة رائعة. لقد قيل "ازرعوا الشر تحصدوا شراً، وازرعوا الخير يعود الخير على الجميع.". للأسف دسَّ تلك البذور السيئة في نفوس الناس ناس يستندون إلى تفسير مريض لبعض آيات الدين القاسية، متغافلين عما في الدين من أطنان من البذور الطيبة.

فيا أولو الأمر.. لصالح مصر، ولمستقبل مصر وأبنائها.. احرقوا تلك البذور السوداء وتخلصوا منها فهي سموم. وانزعوا هذه الأشواك النابتة منها من جذورها واستبدلوها بما يحلو من كلام الله وعدل الله ورحمة الله تجاه جميع البشر خليقته وصنع يديه، لا تسمحوا لمن يفرق ويقتل ويستبد ويشوه الدين نفسه.  انزعوا هذه البذور السوداء من منازلنا وبرامج التعليم في مدارسنا وصحفنا وفضائياتنا ومنابرنا ومعابدنا. درسوا لأطفالنا الحلو من كل دين، ففي كل دين سماحة ومحبة وتواد وتعايش افعلوا ذلك نكسب جيلا جديدا بقِيَـم راقية انسانية طيبة جديدة، فنبني مجتمعاً سليماً خيِّراً صَفوحاً متحاب متسامح، يسعد الوطن والمواطنبن.. ويرضي الله.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع