منى أبوسنة
ازداد وشاع فى الآونة الأخيرة مصطلحان متناقضان هما «القوة الناعمة» فى مقابل «القوة الخشنة». والمقصود بالمصطلح الأول أى القوة الناعمة الأعمال الأدبية والفنية التى ينتجها المبدعون. بينما يقصد بالمصطلح الثانى وهو «القوة الخشنة» مجالات السياسة والاقتصاد والآلة العسكرية التى تمتلكها وتديرها الأنظمة الحاكمة فى كل الدول.
وصفة «الخشنة» تشير إلى القوة السلطوية لأى حكم ينطوى على قوة تدميرية للبشر، بينما صفة «الناعمة» تعبر عن المشاعر الإنسانية والتعاطف والرغبة فى البناء، وهى مبادئ يؤمن بها كل من يتبنى مصطلح القوة الناعمة ويبثها فى كل ما ينتجه من أعمال بهدف توعية الجماهير بما تنطوى عليه القوة الخشنة. وهى محاولة لإحداث توازن بين القوتين، فى حدها الأدنى، أو التقليل من سطوة القوة الخشنة وإبطال تأثيرها على وعى الجماهير، فى حدها الأقصى.
والسؤال الآن: كيف نرفع هذا التناقض بين القوتين: القوة الناعمة والقوة الخشنة؟.
من أجل الإجابة عن هذا السؤال يلزم أولًا قبول كل من المصطلحين أو التظاهر بالقبول، على أقل تقدير، حيث إن كلا من القوة الخشنة والناعمة تستهدفان التأثير على الجماهير.
إما من أجل السيطرة عليها وتسييسها فى مسار القوة الخشنة أو توعية الجماهير بقدرتها العقلية والاجتماعية على إضعاف مخططات وأهداف القوة الخشنة، وفى كلتا الحالتين المستهدف هو جماهير الشعب، أىّ شعب فى أىّ دولة على وجه الأرض.
وما يهمنا هو المصريون، فى المقام الأول والشعوب العربية فى المقام الثانى، مع التركيز على تأثير كل من القوتين على تكوين الهوية الثقافية لجماهير المجتمع المصرى والعربى.
أنا هنا أطرح رؤية حضارية تستهدف تحقيق الغاية الإنسانية وراء ما ينتجه أصحاب القوة الناعمة. وتنطلق هذه الرؤية من مفهوم حضارى يتناول الأدب باعتباره منتجًا حضاريًا وأحد المكونات الأساسية لثقافة مجتمع بعينه فى زمان معين. بيد أنه يتجاوز المكان والزمان ليشكل النسيج الفكرى والمعنوى للحضارة الإنسانية.
ومن ثم فإن المنظور الحضارى يتجاوز المنظور الاجتماعى الضيق، ويتناول العمل الأدبى من خلال إحدى قضايا العصر. وهذا المنظور يجمع ما بين شكل العمل الأدبى ومضمونه فى وحدة عضوية انطلاقًا من أن الشكل ما هو إلا تجسيد لرؤية الأديب الكونية المتأثرة بالواقع الاجتماعى الذى نشأت فيه وتأثرت به ثم تجاوزته.
والرؤية الأدبية الكونية هى المعادل الأدبى للرؤية الفلسفية عند الفيلسوف ومن هنا ثمة علاقة عضوية بين الأدب والفلسفة. يقول بليخانوف عن علاقة الفلسفة بالأدب: «إن الفلسفة لم تتجاوز الاستاطيقا ولكنها على الضد من ذلك قد مهدت لها، وذلك بمساعدتها على أن تؤسس تأسيسًا صلبًا.
وعلى هذا المنوال يمكن البحث عن معادل اجتماعى لظاهرة أدبية. إن النقد الأدبى يكون فاشلًا إذا لم يفهم أن مهمته محددة باكتشاف هذا المعادل، وأن علم الاجتماع لا يغلق الباب أمام الاستاطيقا بل يجعله مفتوحًا».
وقد تأسست العلاقة بين الأدب والفلسفة من خلال الرؤية الكونية للأديب منذ أرسطو فى كتابه «فن الشعر» الذى أرسى به قواعد فن المسرح بالتركيز على «الحدث» وربطه بقيمة الخير، يقول أرسطو «التراجيديا محاكاة ليس للبشر ولكن لأفعال الحياة، وللسعادة والشقاء. السعادة تكمن فى مفهوم (الحدث)، والخير الأسمى فى ذاته هو الغاية».
وكونية الأدب مردودة إلى أن نشأة الأدب كانت مواكبة لبزوغ الحضارة الإنسانية، بل كانت هذه سابقة على الحضارة وممهدة لها. فإذا اعتبرنا أن نشأة الحضارة مردودة إلى المجتمع الزراعى، فإن عصر الصيد السابق عليه قد شهد مولد الفنون والآداب فى أشكالها البدائية من رسومات على جدران الكهوف إلى التعاويذ والتمائم المنحوتة على آلات الصيد، وكانت كلها تعبيرًا عن رؤية كونية أسطورية تحدد علاقة الإنسان بالكون ومكانته فى الطبيعة.
وتغييرها طبقًًا لاحتياجاته المادية من طعام وكساء، من جهة، واحتياجاته المعنوية المتمثلة فى نزوعه الدائم نحو الإحساس بالأمان فى العالم، من جهة أخرى. وتطور الأدب مواكب لتطور الرؤية الكونية من الأسطورة إلى العقل.
وهذا المسار يكشف عن قدرة الإنسان المتزايدة على التحكم فى العالم الخارجى وتغييره من خلال اكتشاف القوانين العلمية التى تحكم الكون مستخدمًا العقل لا الأسطورة.
وتأسيسًا على ذلك فإن الأدب باعتباره منتجًا حضاريًا يكشف عن المستويات المتعددة للحضارة، من خلال انتمائه إلى ثقافات متباينة تكشف عن مسار تاريخى وعن رؤية كونية تحدد أسلوب حياة البشر وعلاقاتهم وأسلوب تفكيرهم.
فمن زاوية التطور التاريخى شهدت معظم دول أوروبا، فى الوقت نفسه، تطورًا من الأسطورة إلى العقل من حيث الشكل والمضمون، وذلك من خلال حدثين تاريخيين هما الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر كبداية، والتنوير فى القرن الثامن عشر كتتويج. والثقافة اليونانية هى الأساس الحضارى المشترك لهاتين الحركتين، وبالذات فى مجال الفلسفة والأدب.. وللحديث بقية.