بقلم: عبدالخالق حسين
في الأنظمة الديمقراطية لا بد من وجود معارضة ديمقراطية مسؤولة، تراقب نشاطات الحكومة وتحاسبها على كل صغيرة وكبيرة، إذ لا توجد حكومة جيدة إلا بمعارضة جيدة. ولكن في العراق، العلاقة بين السلطة والمعارضة تشبه لعبة القط والفأر، أقرب إلى العداء منه إلى معارضة ديمقراطية حريصة على مصلحة الشعب، فهدف المعارضة هنا الطعن في كل ما تفعله وما لا تفعله السلطة، تتصف باستخدام العنف في الخطاب، ولغة التسقيط والتحقير والتخوين، والتأليب، وحتى بعضها يلجأ إلى العنف المسلح، والتعاون مع حكومات أجنبية للإطاحة بحكومة وطنية منتخبة والمعارضة مشاركة بها. فالحالة العراقية فريدة من نوعها، إذ يمكن لأي كيان سياسي أن يكون مشاركاً في السلطة ومعارضاً لها، وحتى يتآمر عليها في نفس الوقت.
والعنف في خطاب المعارضة ليس جديداً، بل ولد مع ولادة الدولة العراقية المشوهة على يد القابلة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، وكنتاج مباشر لثورة العشرين، واستمر هذا العنف إلى يومنا هذا. وكل ما تغير هو الجهة التي نتهم السلطة بالعمالة لها. ففي نظر المعارضة، كان حكام العهد الملكي عملاء للاستعمار البريطاني، وفي عهد ثورة 14 تموز كان الزعيم عبدالكريم قاسم عميلاً للسوفيت، أراد إعلان الشيوعية، أما اليوم فنوري المالكي هو عميل لإيران، يريد إقامة حكم ولاية الفقيه، وينفذ أوامر السيد علي خامنئي. هذه هي لغة المعارضة بالأمس واليوم دون تغيير.
والملاحظ أيضاً، أن المعارضة تحاول إبراز كل قضية وكأنها صراع بين شخصين، أحدهما يمثل الشر المطلق، وعادة هو رئيس الوزراء، والآخر يمثل الخير المطلق وأياً كان حتى ولو كان إرهابياً مثل طارق الهاشمي! فالمعارضة تتهجم على الحكومة عند حصول أية عملية إرهابية، أو فساد مالي وإدراري، وتتهمها بالضعف والتهاون، وتطالب رئيس الوزراء بالاستقالة لأنه فشل في دحر الإرهاب. ولكن ما أن تقوم الأجهزة الأمنية بإلقاء القبض على المشتبه بهم في الإرهاب أو الفساد حتى وترفع بعض أطراف المعارضة عقيرتها بالصراخ وتتهم الحكومة بإلقاء القبض على أناس أبرياء، والتجاوز على حقوق الإنسان، وتطالب بإطلاق سراحهم دون محاكمة، وقد حصل هذا حتى في حالة سفاح الدجيل.
وآخر صراع نشهده في هذه الأيام هو ما يخص قضية البنك المركزي ومحافظه، الدكتور سنان الشبيبي، حيث أثيرت حولهما ضجة واسعة على شكل مقالات، ورفع مذكرات احتجاجية، وحملة تواقيع على نداءات للدفاع عن الشبيبي، المتهم، وحتى قبل أن تتضح حيثيات المشكلة. وكأية أزمة عراقية، تمت شخصنتها، فطرحت على أنها صراع شخصي بين رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، ومحافظ البنك المركزي، الدكتور سنان الشبيبي. وحجة المدافعين عن الأخير هي أن رئيس الوزراء يريد الانتقام لأنه طلب قرضاً بـ 15 مليار دولار، فرفض محافظ البنك ذلك حرصاً منه على أموال الشعب، ثم نشرت مقالات أخرى رفعوا المبلغ إلى 65 مليار دولار! ربما كتاب هذه المقالات لم يعرفوا ضخامة هذه الأرقام، ولا يدرون أن صرف أي مبلغ لا يتم إلا بموافقة البرلمان وبمنتهى الشفافية والعلنية.
المشكلة هنا، أنك إذا ما تورطت في الكتابة عن أية قضية عراقية، ولم تساير التيار المعارض في كل ما يقولون ضد السلطة، فأنت متهم بالعمالة للسلطة ومنتفع منها، علماً بأن العديد من هؤلاء المعارضين يستلمون رواتب سخية من سلطة إقليم كردستان، ومنهم برتبة وزير متقاعد...الخ.
على أي حال، تعالوا نستعرض الأمور عسى أن نتوصل إلى الحقيقة، ولنبدأ ببعض الحقائق التي لا يختلف عليها اثنان وهي:
أولاً، البنك المركزي هيئة مستقلة، ولكن هذا لا يعني أنه محصن من الفساد وطليق اليدين غير خاضع لأية جهة مراقبة ومساءلة. فالبرلمان أعلى سلطة تشريعية منتخبة في البلاد من حقه، بل ومن واجبه، مراقبة أية هيئة، مستقلة أو غير مستقلة.
ثانياً، تركزت كتابات معظم المدافعين عن الدكتور سنان الشبيبي، محافظ البنك، على انتمائه العائلي وحسبه ونسبه. ومع احترامنا الكبير لأسرة الشبيبي، ومكانتها المرموقة، وتضحياتها في سبيل القضايا الوطنية، إلا إنه من نافلة القول أن الانتماء العائلي لا يمنح الشخص المناعة ضد الفساد. وهذا لا يعني أني أشك بنزاهة الدكتور الشبيبي، فالرجل صاحب كفاءة ونزاهة، التقيته مرة بشكل سريع في مؤتمر المعارضة العراقية عام 1999 في نيويورك، وهو معروف بالكفاءة والخلق الكريم. ولكن ما أريد قوله هو أن كيل المديح لشخص بالاعتماد على الحسب والنسب هو أسلوب بدوي قديم غير مقبول في عصرنا الراهن، إذ ليس هناك شخص معصوم عن الخطأ و فوق المساءلة، وهذه قاعدة عامة في المجتمعات المتحضرة وخاصة الديمقراطية منها. لذلك أعتقد أن الذين دافعوا عن الشبيبي من منطلق انتمائه العائلي فقد أساءوا له أكثر مما أفادوه.
ما هي المشكلة؟
لتوضيح الصورة للقارئ الكريم، أرى من المفيد أن أذكر شيئاً عن المشكلة ولو بإيجاز شديد كما نشرتها وكالات الأنباء، وهي كما يلي:
أولاً، قبل أشهر تصاعدت وتيرة الاتهامات بشأن عمليات تهريب العملة التي أثرت على أسعار بيع الدولار في الأسواق المحلية وأدت إلى زيادة سعر صرفه، مما طالب نواب بضرورة أن تبادر الحكومة إلى إيقاف عمليات بيع العملة في مزادات البنك المركزي، لأن العراق يخسر أموالاً كبيرة جراء تهريبها يومياً إلى خارج الحدود.
ثانياً، طلب الدكتور سنان الشبيبي، محافظ البنك المركزي، من رئيس الوزراء فصل 4 مدراء عامين في مؤسسته، ولم ينفذ الطلب.
ثالثاً، كشف رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي في (7 تشرين الأول 2012)، عن وجود شبهة فساد في عمل البنك المركزي العراقي، مشيراً إلى أن المجلس باشر بتحقيق "معمق" في سياسة البنك المركزي منذ العام 2003، وتعهد بمتابعة التحقيق "شخصيا" لأهمية القضية.
رابعاً، كان عضو اللجنة التحقيقية بشأن عمل البنك المركزي هيثم الجبوري أكد في 14 تشرين الأول الحالي، صدور مذكرات اعتقال ومنع سفر بحق محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي ومسؤولين في البنك، وفيما اعتبر أن بقاء المحافظ في الخارج سيثبت تهم الفساد.
وكما ذكرنا أعلاه، أن خصوم المالكي من الكتاب والسياسيين، يقتنصون كل فرصة لتوظيفها من أجل الطعن والهجوم عليه وتحميله مسؤولية الأزمة. لذلك طرحوا قضية البنك المركزي وكأنها مسألة خصومة وثأر بين رئيس الوزراء ومحافظ البنك، وتبين أن الأمر ليس كذلك.
ففي لقاء له مع الصحافة، أكد رئيس الحكومة نوري المالكي، الاربعاء، (24 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 السومرية نيوز، بغداد) – ["عدم صلة حكومته بمذكرة اعتقال محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي، موضحا أن الاضطراب الذي حدث بسعر العملة العراقية حفز العديد من الجهات الرقابية للتحقيق في نشاط البنك". وأضاف المالكي أن "اللجنة رفعت تقريرها الموقع من قبل رئيس البرلمان أسامة النجيفي، الى هيئة النزاهة مباشرة دون ان يمر على الحكومة"، مبينا أن"الهيئة رفعت هي الأخرى تقريرها مع تقرير اللجنة الى محكمة التحقيق الخاصة بقضايا النزاهة في مجلس القضاء الاعلى... وأن المحكمة أصدرت اوامر القبض بحق محافظ البنك سنان الشبيبي وعدد من موظفي البنك للتحقيق معهم"، مشيرا إلى أن "مجلس الوزراء صوَّت بالإجماع تقريبا بعد حصول هذه التطورات على تكليف عبد الباسط تركي رئيس ديوان الرقابة المالية للقيام بمهام محافظ البنك حتى اشعار اخر".(1)
ومن كل ما تقدم، نفهم أن الهجوم الذي شنه مناصرو الدكتور الشبيبي على المالكي كان مخالفاً للواقع، وإنه كان بدوافع كيدية وليس الدفاع عن السيد الشبيبي. ومن هنا خسر هؤلاء السادة مصداقيتهم.
من الرابح والخاسر من هذه الضجة؟
لا شك أن الضجة مفتعلة ولا مسوغ لها، ولو من حق الكتاب والسياسيين إدلاء آرائهم في كل ما يخص الشأن العام، ولكن الطريقة التي تعاملوا بها مع الأزمة كانت تنم عن نوايا انتقامية، وكان مردودها معكوساً على المعارضين أنفسهم. ولعل أكثر الخاسرين هو السيد سنان الشبيبي بسبب توظيف قضيته لأغراض سياسية وللكسب السياسي، بينما كان المفروض معالجة الأزمة دون تحزب وإثارة، وترك الأمور للسيد الشبيبي نفسه ليختار الطريقة الصحيحة لمواجهة الأزمة بالطرق القانونية لتبرئة ساحته. والرابح هنا هو المالكي حيث ترك خصومه يصعدون من حملتهم ضده في قضية لا علاقة له بها أصلاً كما أثبت ذلك في تصريحاته الأخيرة المشار إليها أعلاه، وبذلك فقد سحب البساط من تحت أقدامهم، وخسروا مصداقيتهم أمام الرأي العام العراقي.
ما المطلوب عمله؟
لا أحد يشك بنزاهة الدكتور سنان الشبيبي وبراءته من التهمة، لذلك فالمطلوب منه أن يعود إلى العراق، ويواجه التحقيق بنفسه ليثبت براءته. أما إذا اختار البقاء في الخارج وعدم حضوره التحقيق فإنه سيحاكم غيابياً، وفي هذه الحالة ستثبت عليه التهمة، ونحن لا نريد له هذا المصير. أما الذين تظاهروا بالدفاع عنه فكان غرضهم ليس الدفاع عن الشبيبي، بل نكاية بالمالكي الذي أثبت أنه لم يكن طرفاً في الصراع. وأنا واثق لو كان المالكي قد دافع عن سنان الشبيبي منذ البداية، لاتخذ المدافعون عنه اليوم موقفاً مغايراً منه، ومشابهاً لموقفهم من عبدالفلاح السوداني، وزير التجارة السابق.
إن أخطر ما يهدد العدالة هو عندما يتدخل الإعلام في شأن القضاء ويحاول فرض الضغوط عليه لتحريف سير التحقيق. فالقضاء هو وحده المسؤول للبت في هذه الأمور وليس الإعلام.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع