احمد الخميسي
كانت الساعة ماتزال الرابعة والنصف وحازم يمد الخطى من عند شادر السمك القديم إلى مطلع الكوبري، نحيفا في بنطلون أزرق وقميص اهترأت ياقته. موعده مع شيرين في الخامسة حين تقل حركة السيارات والمرور على الكوبري، حيث يمكن أن يلتقيا من دون تكاليف بطاقات سينما أو مقهى أو حتى حديقة. توقف ينفخ خديه عند الرصيف الذي يجلسان على طرفه متلاصقين، يتبادلان ضغطات الأيدي وكلمات تهوم حول شيء لا يصرحان به. أخيرا لمحها مقبلة وهي تفتش عنه بعينيها. شاهدته فلوحت له بكفها مبتسمة.
أحبها منذ عامين وهو في السادسة عشرة وهي أصغر منه بعام، من لحظة أن رآها تخرج من باب العمارة المقابلة في بلوزة برتقالي وجونلة بني فاتح. يومئذ توقفت وراحت تدير بصرها في ما حولها بنظرة وديعة، كأنما تنتظر الإذن من الأرض لتخطو عليها. ما إن شاهدها حتى غمرته بنفسها، كأنه يعرفها من طفولته، فلم يعد به شيء ليس هي. وراحا يلتقيان بعد الانصراف من المدرسة، ويتجولان في المساء تحت أعمدة النور في الشوارع البعيدة، وذات امرة وهما معا كاد أخوها ان يضبطهما، لكنه لمحه وهمس يحذرها بسرعة، فواصلت السير بمفردها تؤرجح حقيبة صغيرة مدلاة من كتفها، حتى لحقها أخوها، ومرت الحكاية بسلام.
هاهي شيرين تتوقف أمامه. شعرها مرسل في عقدة وراء رأسها. عيناها تبسمان له. انحنت وجلست على الرصيف. فردت ساقيها أمامها على الإسفلت، ألقت نظرة على وجهه النحيف وعظام وجنتيه البارزة بشحوب التلاميذ الذين لا يأكلون حتى الشبع، ثم ارتخت شفتاها نصف مفتوحتين عن نصف أمل، وراحت تسرد عليه أخبار الامتحانات المقبلة. قال لها: " قريبا نلتحق بالجامعة ونفعل ما نشاء ". أطرقت لحظة. تخيلت أنهما أنهيا الجامعة ويعملان ويحصلان على راتب فيلتقيان في كافيه. أخذت تتذكر كم مرة تواعدا على الرصيف، طوت أصابع كفها اليمنى الواحد تلو الآخر تحسب عدد المرات ثم همست: " خامس مرة نلتقي هنا". أمسك بإصبعها الأصغر وألصقه بشفتيه فأحس حرارة الروح الحية، وارتجف بالرغبة في أن يعيشا ويموتا معا مثل حجر لا ينقسم. حل صمت كأنه الحقيقة، ولم يتمالك نفسه. ضم كتفيها بقوة، وطبع على شفتيها قبلة اتقدت من أنفاسها. لم تستغرق القبلة سوى ثوان معدودة، كالبرق، لكنها دوت في سماء القاهرة موضوعا لا ينتهي في البرامج التلفزيونية والصحف وخطب الدعاة في المساجد، بل وبين الركاب في المواصلات. فقد تصادف أن رجلا في عمارة مطلة على الكوبري كان في شرفة شقته يتابع اللقاء عن له تصوير القبلة فيديو ونشره على وسائل التواصل. ووصلت القبلة إلى النيابة العامة حين تقدمت إحدى المحاميات ببلاغ ضد " شابين ظهرا في فيديو يمارسان فعلا منافيا للآداب. مخالفا لقيم المجتمع وتقاليده"، ثم تدخل قسم الشرطة، فدوت " الفضيحة" في كل مكان بعناوين صارخة " الفسق والفجور في الطريق العام"، " فعل فاضح يهز القاهرة"، " اعرف عقوبة الرذيلة"!
في اليوم التالي فوجئ حازم مذهولا بشرطيين اثنين يطرقان باب الشقة ويسوقانه إلى القسم في سيارة سوداء كانت تنتظر أمام المنزل، ولم تصدق شيرين وهم يسحبونها من بين أخوتها ما يجري. انفجرت في بكاء عصبي مخبولة وأخوها يلحق بها ويهمس في أذنها: " لا تعودي إلى هنا مرة أخرى". وقف الاثنان في قسم الشرطة أمام الضابط. شيرين ترتجف باكية وحازم نحيفا مهتزا مطرقا سيطر عليه يقين مروع أن شيرين ضاعت منه للأبد ولن يكون بوسعه أن يراها بعد ذلك.
مر يومان على التحقيق معهما امتلأت الصحف خلالهما بالأخبار تتابع الفضيحة، وتجمعت فوق الكوبري حلقات الفضوليين والعابرين يعاينون موقع الحدث وبينهم اندس صبيان أصحاب غرز الحشيش تحت الكوبري يتحسسون الأخبار. احتشدوا وقد طوقتهم من كل ناحية رائحة العفن المنبعثة من مقلب الزبالة تحت الكوبري. في واحدة من تلك الحلقات وقفت امرأة قصيرة بجلباب أسود تلوح بذراعيها وتصرخ: " ما فعله الولد والبنت لا يمكن السكوت عليه"، ولمحت المرأة غير بعيد عنها صحفيا شابا واقفا وقد تدلت كاميرا من كتفه، فاندفعت نحوه، وكادت أن تسقط على وجهها عندما تعثرت قدمها بشرخ في إسفلت الكوبري الذي قالوا منذ شهرين إنهم أنهوا صيانته بتكلفة باهظة. توقفت المرأة أمام الصحفي الشاب تهش الناموس عن وجنتيها وتزعق:" فساد.. وساخة.. وإجرام ".
بانقضاء شهر على حكاية حازم وشيرين شغلت القاهرة أخبار جديدة، وهدأت مطاردة قبلة الحب التي رفرفت على إسفلت الكوبري.
**