الأقباط متحدون - تونس سباقة.. مرة أخرى
أخر تحديث ١٦:٠٨ | الخميس ٢٥ اكتوبر ٢٠١٢ | ١٤ بابة ١٧٢٩ ش | العدد ٢٩٢٤ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

تونس سباقة.. مرة أخرى

رحلة الألف ميل قطعتها فى ثلاث ساعات. لم تكن رحلتى الأولى التى أقوم بها بين تونس ومصر، بل لعلها الرحلة الأربعون على امتداد ثلاثين عاما. كنت دائما، قبل مغادرتى وبعد وصولى أقارن بين أحوال البلدين. هدوء هناك وصخب هنا، سحابات بيضاء تزين السماء هناك وسحابة سوداء هنا، نظافة وانضباط هناك ونظافة أقل وانضباط يكاد ينعدم هنا، ملل ورتابة هناك وتسلية قصوى هنا. بلدان يتكاملان فى عالمى الخاص.
 
فى هذه المرة كسابقاتها عقدت المقارنة، لكن اختلفت هذه المرة فى أن كثيرا مما تركته خلفى هنا وجدته فى انتظارى فى تونس، وأهم ما رأيته يقع فى تونس عدت لأراه يقع فى مصر التى لم أغب عنها سوى أربعة أيام. يوم العودة وبينما أحاول تمضية الوقت فى مطار القاهرة فى انتظار من سيأتى ليقلنى إلى وسط المدينة،  توقفت لحظات فى إحدى صالات السوق الحرة. تصادف خلال تلك اللحظات أن ظهر على شاشة التليفزيون المثبت على جدار السوق شخص يبدو من «موديل» لحيته ولهجته المختلفة، بطبيعتها أو بتصنع، عن لهجاتنا المصرية أنه زعيم من زعماء الحركة السلفية فى مصر، سمعته ينذر أو يبشر بمظاهرة عظمى تضم سبعة ملايين مصرى، تنزل إلى الشوارع والميادين، إذا شعرت الحركة بأن مشروع الدستور الجديد لن يفى بمطالب الحركة فى شأن بعض مواد الدستور وتوجهه العام.

ابتسمت، رغم جدية الموقف وانتباه الحاضرين ولوعة بعض المسافرين من جنسيات عربية الذين لفت نظرهم شكل الزعيم السلفى، وهو شكل لم يتعودوا على رؤيته فى مصر، وخطورة ما ينطق به، ابتسمت رغم العبوس البادى على جميع الوجوه إذ كنت الوحيد بينهم القادم لتوه من تونس تاركا خلفه خطابا سلفيا أشد عنفا ووضعا سياسيا أكثر ارتباكا.

لم يخالجنى شك وقتها، رغم ان الشك يخالج الكثيرين فى مصر وخارجها، فى أن حماسة الزعيم حقيقية وصادقة وتهديده بالنزول إلى الشارع بملايين غفيرة تهديد قابل للتنفيذ، فى حال قدم الإخوان المسلمون تنازلات فى قضايا معينة وسلموا لغير الإسلاميين فى مسائل لا يحق لهم حسب رأى هذا الزعيم وفريق فى حركته التسليم فيها.

لم أكن وصلت إلى تونس عندما صار متداولا «شريط» اليوتيوب الشهير، الذى حمل فقرات من حديث، قيل إن الشيخ راشد الغنوشى، زعيم حركة النهضة الإسلامية فى تونس، أدلى به أمام عدد من زعماء الحركة السلفية هناك. لكنى كنت هناك عندما هاجت الساحة السياسية التونسية وماجت بسبب هذا الشريط. فريق من الناس يقول إن الشريط كله «مفبرك» وان الشيخ لم ينطق بهذه الأقوال. فالشريط، حسب رأيهم، مثل مواد إعلامية أخرى، جزء من الحملة الإعلامية «الكريهة» التى يشنها الإعلاميون التوانسة ضد الإسلاميين وبخاصة حركة النهضة التى تقود الائتلاف الحاكم. فريق آخر، أكثر عددا وأشمل انتشارا، يزعم أن الشريط حقيقى وأن الشيخ أدلى فعلا بهذه الاقوال. الشريط فى رأى هذا الفريق، دليل جديد على مؤامرة يدبرها قادة النهضة مع قادة السلفية الجهادية، تبدو من خلالها النهضة حزبا سياسيا معتدلا ومتسامحا وعاقلا. ففى جانب من حديثه ينصح الشيخ الغنوشى السلفيين أن يتحفظوا بعض الشىء فى سلوكياتهم التى تكشف عن تعصبهم. وفى جانب آخر يطالبهم بعدم التسرع للوصول إلى السلطة وتحقيق أهدافهم، قائلا إنه لابد من أخذ الوقت الكافى لهضم المسافة «الإسلامية» التى قطعتها تونس قبل أن تبدأ فى محاولة فرض الشريعة، مضيفا أنه مطلوب من الجميع فهم جوهرى لحقيقة الشريعة.

فى مجال آخر وصف الشيخ الغنوشى السلفيين بأنهم «أولاد مشاكسون» فاتهم قطار التعليم قائلا إن الميزة التى يتمتع بها «الإسلام التونسى» هو أنه يخاطب العقل. ويدعو الشيخ جميع القوى السياسية التونسية إلى عدم اقصاء السلفيين أو معاقبتهم عقابا مشددا وإلا زادوا تطرفا. ويردد أن تشويه صورة السلفيين تزيد من خطورتهم فى تلميح واضح إلى القوة التى اكتسبتها حركة النهضة كثمرة من ثمار قمع السلطة لها فى عهدى بورقيبة وزين العابدين بن على.

وفى لقاء الشيخ وعدد من المفكرين العرب لم يخف دعمه لإجراءات محاكمة السلفيين الذين هاجموا السفارة والمدرسة الأمريكية فى العاصمة التونسية فى أعقاب حادثة الفيلم «المسىء». كان صريحا وقاطعا فى إدانة الشريط الذى يستخدمه الإعلاميون العلمانيون فى محاولة لاتهامه بالتآمر مع الحركة السلفية وتوزيع الأدوار معهم، قائلا إنما هو شريط حدث به تلاعب وتدخل.

استمعنا فى اللقاء ذاته إلى ردود فعل ممثلين للتيارات المدنية، أى غير الدينية أو ما تسمى بالقوى الليبرالية والديمقراطية والعلمانية هؤلاء مقتنعون وجازمون فى قناعاتهم بأن هناك مؤامرة بين النهضة والسلفيين. كانت هذه المؤامرة حتى وقت قريب محل شكوك، وأصبحت الآن مؤكدة باكتشاف الشريط الشهير الذى سجل وقائع اللقاء السرى بين الشيخ وقادة السلفيين وآخرين. بعض هؤلاء يتطرفون فى تصوير العلاقة بين التيارات الإسلامية فيقولون إن السلفيين التونسيين هم فى حقيقتهم «ميليشيات حزب النهضة». بينما يقول آخرون إنه من الخطأ تجميع السلفيين فى جانب واحد، فهؤلاء صاروا أفرع عديدة، أشدها عنفا وخطورة تيار «أنصار الشريعة». هذه الأفرع العنيفة فى الجهادية السلفية هى التى يخشاها حقيقة وفعلا قادة حزب النهضة الذى يشعر بأنه لم يحصل بعد على القوة الكافية ليدخل فى مواجهة حاسمة مع السلفيين الجهاديين. 

الحاجة ماسة وحيوية للسيطرة على جميع مفاتيح إدارة الدولة إذا أراد حزب النهضة تحقيق الاستقرار السياسى والتخلص من العناصر المتطرفة فى الحركة الإسلامية، هذا على الأقل ما يقوله بعض من تحدثت إليهم من شباب النهضة. بمعنى آخر، لا حل سياسيا إلا بتعيين رجال حزب النهضة فى الوظائف الحكومية وبخاصة فى الأجهزة التى يسيطر عليها الآن العلمانيون والمناهضون للإسلام السياسى، هذه الأجهزة تحديدا هى الشرطة والإعلام والجيش.

تشعر وأنت تتحدث إلى بعض القادة الإسلاميين فى تونس بأن المكاسب السياسية تكاد تحتل الأولوية فى قائمة أهداف حزب النهضة الإسلامى مهما حاولوا تغليفها بأغلفة تحمل عناوين الاستقرار وإقامة دولة القانون ومناهضة الملحدين والعلمانيين ووقف نزيف العنف فى المجتمع، تشعر كما لو كانوا قد قرروا التخلى مؤقتا عن الدعوة الدينية والالتزام ببناء دولة الأخلاق والتركيز بدلا من ذلك على اللعبة السياسية وباستخدام فنون البراجماتية السياسية وأدواتها. هذه البراجماتية هى بلا شك ضرورة لمن قرر العمل بالسياسة، لكنها تبدو غريبة عندما تصدر عن ممثلى تيار دينى.

تذكرت دراسة حديثة أعدتها باحثة إنجليزية تدعى مونيكا ماركس لمؤسسة كارنيجى لا تستبعد فيها تنفيذ شكل من أشكال التعاون بين حكومة حماس فى غزة وقوات عسكرية إسرائيلية لتحجيم القوة المتضخمة للسلفيين الجهاديين والتيارات المتطرفة فى الحركة الفلسطينية الإسلامية. نعرف أن حماس حاولت أكثر من مرة تطويع الحركات الأشد تطرفا وكسبها إلى صفوفها، تماما كما تحاول قيادة حزب النهضة وقيادات الإخوان المسلمين فى مصر، وكما تحاول طالبان الآن فى أفغانستان وباكستان. نعرف أيضا أن البديل فى حالة الفشل لن يخرج عن الصدام واستخدام العنف، إذ لن ترضى القوى الإسلامية التقليدية ان تسرق «انتصاراتها الديمقراطية» قوى إسلامية متطرفة مزودة بتمويل خارجى ملموس ومؤهلة بخبرة جديدة، لكن مكثفة فى تشكيل خلايا تستطيع أن تتغلب عددا وقوة على تنظيمات الأحزاب الإسلامية المعتدلة.

 مرة أخرى تتأكد خطورة البديل المطروح فى تونس: أن تبادر حكومات الإسلام السياسى المعتدل إلى تنفيذ خطط الاستيلاء على أدوات القوة والإدارة فى الدولة، وبسرعة فائقة، أى قبل أن تتمكن قوى الاسلام المتطرف من تأكيد انتشارها وقبل حلول موعد انتخابات عامة جديدة.

نقلاً عن الشروق


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع