بقلم /ماجد كامل
تحتفل الكنيسة القبطية الآرثوذكسية يوم 2 أمشير حسب التقويم القبطي الموافق 9 فبراير حسب . حسب التقويم الميلادي بعيد نياحة "وفاة" القديس الأنبا بولا والملقب بأول السواح ؛ والسواح درجة من درجات الرهبنة العليا يصل إليها الراهب بعد سنوات طويلة من التدريب والجهاد الروحي ؛إلي درجة أنه يصبح غير مرتبط بمكان أو ممتلكات ؛فمن كثرة زهده يصل إلي درجة من التجرد بحيث يهيم علي وجهه في الصحراء ؛ وقد عبر قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث – نيح الله نفسه في فردوس النعيم - عن هذه الدرجة من الرهبنة في أحدي قصائده وعنوانها سائح قال فيها :-
1- أنا في البيداء وحدي ليس لي شأن بغيري
2- لي جحر في شقوق التل قد أخفيت جحري
3- وسأمضي منه يوما ساكنا ما لست أدري
4- سائحا يجتاز في الصحراء من قفر لقفر
5- ليس لي دير فكل البيد والأكام ديري
6- لا ولا سور فلن يرتاح للأسوار فكري
7- أنا طير هائم في الجو لم أشغف بوكر
8- أنا في الدنيا طليق في أقامتي وسيري
9- أنا حر حين أغفو حين أمشي حين أجري
10-وغريب أنا أمر الناس شيء غير أمري
أما عن القديس الانبا بولا نفسه ؛ فلقد ولد في مدينة الإسكندرية"وفي رواية أخري طيبة الأقصر حاليا " ؛ وتعلم في أرقي مدارس عصره ؛ثم توفي والده عندما بلغ الخامسة عشر من عمره ؛ فنازعه شقيقه الأكبر ويدعي "بطرس " "وفي رواية أخري زوج شقيقته" في الميراث الذي تركه له والده ؛ووصل النزاع إلي المحاكم ؛وذات مرة بينما هو متجه إلي المحكمة شاهد جنازة لواحد من أكبر أثرياء المدينة ؛فتحدث مع أهل الميت وكأنه يعظ نفسه ؛"هل حمل هذا الميت إلي قبره مالا أو عقارا ؟ "فأجابه محدثه " ومن من الناس يحمل إلي القبر معه شيئا ؟ " فسمع بولا هذا الجواب وكأنه صوت من الله ؛فقال لشقيقه " لا يكون نزاع بيني وبينك ؛هلم نعود إلي المنزل ؛وكل ما تريد أن تأخذه من الميراث ليكن لك " وأثناء العودة فجأة هرب إلي الصحراء ليختلي في مكان منعزل بجانب عين ماء ونخلة ؛وسكن في مغارة في الجبل متعبدا ومصليا ؛ويقال أن الأنبا بولا عندما هرب إلي الصحراء ؛كان ينوي لأول وهلة أن يعود إلي العالم بعد قضاء فترة خلوة في الصلاة والتأمل ؛ولكنه بعد أن ذاق حلاوة الحياة الرهبانية رفض العودة إلي العالم مرة أخري ؛وآثر البقاء في الصحراء بل زاد علي ذلك بأن دخل إلي عمق الصحراء حتي لايتقابل مع أي إنسان . وظل هكذا في الصحراء لمدة حوالي 60 سنة ؛وتصادف في نفس الفترة أن ترهب القديس الانبا انطونيوس أبو جميع الرهبان في ديره الشهير بالبحر الأحمر ؛ وعندما بلغ حوالي التسعين من عمره جاءه فكر أنه أول من خرج للصحراء ليتعبد هناك ؛فجاءه صوت من السماء أنه قد سبقه إلي البرية رجل قديس أسمه بولا ؛ فجال في الصحراء باحثا عنه طالبا من الله الإرشاد ؛ وبعد ثلاثة أيام من البحث المتواصل وعندما حل الظلام بحث عن مكان هاديء يستريح فيه قليلا ؛ فلمح مغارة منحوتة في الجبل وشاهد في داخلها ضؤا خافتا ؛فعلم أنه وجد ضالته المنشودة ؛ وأخذ يقرع باب المغارة بإلحاح شديد حتي فتح له الأنبا بولا ؛ثم تعانقا عناقا طويلا كما لو كانوا يعرفون بعضهم بعضا منذ فترة طويلة ؛ثم جلسا يتحدثان ويتسامران ؛فسأله الأنبا بولا عن مصر وأحوالها ؛وهل ما زال النيل يجري ويفيض بخيره علي المصريين جميعا ؛وبعد أن طمأنه الأنبا أنطونيوس عن مصر وعن فيضان نهر النيل ؛فجأة حلق غراب فوق رأسيهما ونزل وترك لهما رغيف خبز كامل ؛ فقال الانبا بولا للانبا انطونيوس "مبارك الرب الإله الذي لا ينسي عبيده بل يتعدهم بمراحمه .إن لي ستين سنة والغراب يأتيني في كل يوم بنصف رغيف خبز .وأما اليوم فقد أحضر لنا رغيف خبز كامل وهذا من أجلك أنت أيضا "ثم أخبره الأنبا بولا أن الله قد وعده أنك سوف تزورني لكي تواري جسدي التراب ؛وأنا اطلب منك أن تعود إلي ديرك ؛وتحضر لي الرداء الذي أحضره لك القديس أثناسيوس الرسولي لكي تدفن جسدي في التراب به ؛فبكي الانبا انطونيوس من فرط التأثر ؛وذهب إلي ديره بالبحر الأحمر ورجع مرة أخري بالرداء إلي مغارة الانبا بولا؛ فشاهد عددا كبيرا من الملائكة يصعدون بروح الانبا بولا إلي السماء ؛وعندما دخل إلي المغارة شاهد القديس جاثيا علي ركبتيه في وضع الصلاة ؛ وعندما أقترب منه تحقق من وفاته وصعود روحه إلي السماء . فبكي من فرط التأثر ؛ثم ألبسه الثوب الذي طلبه ؛وقام ليواريه التراب ؛ولكنه تبين أنه حاجة إلي أدوات للحفر؛ فأرسل الرب له أسدين أقبلا عليه ؛فرسم لهما الانبا انطونيوس حدود القبر المطلوب حفره ؛وبعد انتهاء الأسدين من الحفر قام القديس الانبا انطونيوس ودفن جسد الانبا بولا ثم صرف الأسدين "وهذا هو سر الأسدين الذين يظهران بأستمرار في أيقونة الأنبا انطونيوس والانبا بولا "ثم عاد إلي ديره بعد أن أخذ معه ثوب الانبا بولا المنسوج من أوراق النخيل ؛وصار يرتديه في الأعياد والمواسم المقدسة تبركا بالقديس . ولقد عاش القديس الانبا بولا حوالي 113 سنة تقريبا ؛إذ ولد عام 228 م ؛وتوفي عام 341م . ولقد أوصي قبيل وفاته أن يواري جسده التراب ولا يهتم أحد بالبحث عنه أو اكتشافه . وكل من يزور دير الانبا بولا الكائن بالبحر الأحمر يجد صخرة كبيرة ؛ويوجد تقليد شفوي متوارث عن الرهبان أن جسد الانبا بولا مدفون تحت هذه الصخرة ؛غير أنه لم يجرؤ أحد علي الحفر أو البحث عنه طبقا لوصيته . والانبا بولا كان قديسا قليل الكلام جدا ؛فلم يسجل له التاريخ إلا جملة واحدة فقط هي "من يهرب من الضيقة يهرب من الله " .
أما عن الدير الآثري علي أسم الانبا بولا الكائن بالبحر الأحمر ؛فهو يقع جنوب شرق دير الانبا انطونيوس ويبتديء طريق الدير بعد حوالي 25 كم من الزعفرانة متفرعا من الطريق الرئيسي الزعفرانة – رأس غارب وممتدا إلي الغرب مسافة ,5 12 كم . وتاريخ تأسيس الدير يرجع إلي القرن الرابع الميلادي ؛وقام بتأاسيس الدير تلاميذ القديس العظيم الانبا انطونيوس ؛ولقد ذكر أحد الرحالة ويدعي بسيتمان أنه زار الدير حوالي عام 400م ؛وشاهد الدير مبنيا فوق المغارة التي عاش فيها القديس . ولقد تعرض الدير عبر العصور لعدة هجمات من البدو ؛منها الهجوم الذي حدث عام 1484م عندما هجم البدو علي ديري الانبا انطونيوس والانبا بولا . حيث قاموا بقتل معظم رهبان الدير وأحرقوا مكتبته الثمينة . وظل الدير مهجورا حتي قام البابا "غبريال السابع " البطريرك ال 95 من بطاركة الكنيسة القبطية ( 1520-1568 م) بإرسال عشرة رهبان من دير السريان لإعادة تعمير الديرين . ثم تعرض لهجوم وتخريب ثان من البدو الرحل ؛وظل مهجورا لمدة 119 سنة . إلي أن جلس البابا يوأنس السادس عشر البطريرك ال103 (1676-1718م ) علي الكرسي المرقسي ؛فأهتم بإعادة تعمير الدير ؛وأرسل بعض رهبان دير الانبا انطونيوس ؛وعددا من البنائين والفعلة والنجارين فقاموا بإصلاح الكنائس والقلالي والأجراس ؛وترميم الأسوار والحصن . وفي أوائل القرن التاسع عشر قام الانبا خريستوذولوس مطران القدس وقتها – وكان أصلا من رهبان الدير – بحركة معمارية واسعة في الدير ؛حيث زاد من مساحة الأرض المزروعة للدير ؛ وترميم الأسوار القديمة والكنائس الأثرية . وخلال الفترة من أعوام (1897-1924 ) تولي رئاسة الدير الانبا أرسانيوس الأول حيث قام بشراء أراضي زراعية جديدة للدير بعزبة بوش بمحافظة بني سويف ؛وبني هناك بيتا كبيرا للإدارة كما بني مدرسة ؛وفي يوم 22 فبراير 1948 سيم القمص ميساك أسقفا للدير بأسم "الأنبا أرسانيوس الثاني " فأهتم بتعمير الدير وزيادة مساحة الأرض الزراعية به . ويوجد للدير مقر حالي في محافظة القاهرة ويقع في حي حدائق القبة بجوار محطة الدمرداش .ولقد ذكر الدير أبو المكارم في كتابه "تاريخ أبو المكارم" ؛ كما ذكره العلامة المقريزي فقال عنه تحت أسم "دير الانبا بولا ":وكان يقال له أولا دير "بولص" ثم قيل له "دير بولا " ويعرف بدير النمورة أيضا ؛وهذا الدير في البر الغربي من الطور علي عين ماء يردها المسافرون ؛وعندهم أن هذه العين تطهرت منها مريم أخت موسي عليهما السلام ؛عند نزول موسي ببني إسرائيل في برية القلزم وبين هذا الدير والبحر ثلاث ساعات ؛وفيه بستان فيه نخل وعنب ؛وبه عين ماء تجري أيضا " وذكره القمص عبد المسيح المسعودي البراموسي في موسوعته الشهيرة " تحفة السائلين في ذكر أديرة الرهبان المصريين "فقال عنه "هذا الدير في الجبل الشرقي في جبل نمرة .إلي الشرق مديرية بني سويف وإلي الجنوب الشرقي من دير أنبا أنطونيوس .وهذان الديران أعني دير أنبا أنطونيوس وأنبا بولا يطلق عليهما الأديرة الشرقية " .
ومن الكتب الحديثة التي كتبت عن الدير نذكر كتاب " الكنائس في مصر منذ رحلة العائلة المقدسة إلي اليوم " للدكتور جودت جبرا وآخرين ؛ وقد صدر عن المركز القومي للترجمة عام 2016 تحت رقم (1844 ) حيث قال عنه " دير الأنبا بولا أصغر حجما من دير الأنبا أنطونيوس ؛وظل لفترات طويلة عرضة لهجمات البدو ؛وفي بداية القرن الثامن عشر الميلادي قام البطريرك يوأنس السادس عشر بتجديد الدير وإعادة إعماره . وتم توسيع الكنيسة الموجودة تحت الأرض ؛بإضافة هيكل ثالث يحمل أسم الأربعة وعشرين قسيسا ؛وتوسيع الحجرة الوسطي وبناء سلم . وزار الأب اليسوعي كلود سيكار الدير عام 1716 ؛ وذكر ان الكنيسة الكنيسة تم تزيينها برسوم زيتية بأسلوب يفتقد إلي الذوق السليم . والتقي الأب سيكار بالرسام وهو أحد رهبان الدير ؛ الذي أعترف أنه لم لم يتعلم الرسم قط ؛ الأمر الذي يشهد عليه رسمه ؛ كما كتب سيكار أنه في أزنة لاحقة لقب الرسام ب"رسام البرجل " نسبة إلي إستدارة وجوه القديسين الذين رسمهم . وبالرغم من أن هذا الراهب لم يتعلم لم يكن متمكنا من الرسم ؛فقد حافظ بإخلاص علي موضوعات الرسومات الجدارية السابقة . وبقايا هذه الجداريات التي ترجع إلي القرن الثالث عشر والرابع عشر ؛لا تزال مرئية في الأجزاء القديمة للكنيسة . وتشبه صور الرهبان الأكبر عمرا . وفي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي ؛بني المعلم إبراهيم الجوهري كنيسة أبو سيفين أعلي كنيسة الأنبا بولا الأثرية جزئيا ووصل بينهما بسلم ؛وأعدات آخر أعمال ترميم الكنيسة (انتهت عام 2005 ) الجداريات إلي ألوانها الأصلية الجميلة " . ( راجع الفقرة بالكامل في الكتاب السابق ذكره ؛ الصفححات من 224- 233 ) .
أما آخر مرجع كتب عن الدير ؛ فهو – في حدود معلوماتي – كتاب "المسيحية القبطية في ألفي عام " للمؤرخ الألماني أوتو ميناردس ( 1925- 2005 ) ترجمة الدكتور مجدي جرجس ؛وقد صدر عن المركز القومي للترجمة تحت رقم ( 2353 ) عام 2019 ( راجع الكتاب المذكور صفحتي 280 ؛281 ) .
ولقد تخرج من دير الأنبا بولا ثلاثة من الآباء البطاركة وهم :-
1- البابا بطرس السادس البطريرك 104 من بطاركة الكنيسة القبطية ( 1718- 1726) وكان يدعي القمص مرجان الأسيوطي قبل الرسامة البابوية .
2- البابا يؤانس السابع عشر البطريرك ال 105 من بطاركة الكنيسة القبطية ( 1726- 1745 ) وكان يدعي القمص عبد السيد الملواني قبل الرسامة البابوية
3- البابا مرقس السابع البطريرك ال 106 ( 1745 – 1769 ) وكان يدعي الراهب سمعان قبل الرسامة البابوية .