بقلم: فرانسوا باسيلي
خطابان يتوجان المئة يوم الأولى من حكم الرئيس محمد مرسي، الأول ألقاه قبل بداية المئة يوم الأولى من حكمه عند إعلان نجاحه في الانتخابات والذي خاطب فيه الناس بقوله: أهلي وعشيرتي، والثاني حدث في نهايات المــــئة يوم وهو الخطاب الذي أرسله إلى 'صديقه العظيم' شمعون بيريز مع الســفير الجديد لمصر في إسرائيل، متمنيا للدولة 'الصديقة' كل الرغد، مع تأكيده بأن يظل الصديق الوفي لبيريز ودولته. الخطابان يعبران عن الفكر الذي يقبع خلف سلوكيات الاخوان وتصرفات الرئيس حتى ألان. كل من هذين الخطابين يكشف خطيئة أساسية في الفكر الاخواني  والممارسات الاخوانية التي نراها في مصر بوضوح اليوم.

الخطاب الأول للدكتور مرسي بعد الإعلان بأنه الفائز في الانتخابات وأنه رئيس مصر القادم جاء بأسلوب يجعلنا نتصوره قادما من العصور الوسطى، ورغم أن المشاعر التي عبر عنها الخطاب طيبة تحمل الود لكافة أطياف وفئات المجتمع، إلا أن أسلوب الخطاب ولغته ومفرداته لا تمت لعصرنا بصلة، فقد راح الدكتور مرسي يخاطب الشعب المصرى قائلا 'أهلي وعشيرتي' مكررا ذلك عدة مرات، ورحم الله الزعيم المصري والعربي جمال عبد الناصر الذى كان يبدأ خطاباته بعبارة 'أيها الأخوة المواطنون' فالمصريون الذين كانوا ينعمون بمفهوم المواطنة منذ أكثر من نصف قرن، يسمعون رئيسهم 'الثوري' الجديد يصفهم بالعشائر، رغم أن مصر مجتمع حضري زراعي مستقر وموحد منذ سبعة آلاف سنة وليس مجتمع عشائر أو قبائل أو غيرها من التقسيمات الماقبل حضرية.'

هذا بالإضافة إلى الاستخدام الزائد للآيات القرآنية ولمفاهيم قديمة للحكم وعلاقة الحاكم بالمحكومين مثل دعوته للناس أن يقوموه إذا ما أخطأ، ففي الدولة العصرية اليوم هناك قوانين وقضاة ومحاكم لهذا الغرض، كما أن إستخدام الدين في الخطاب السياسي لم يكن من عادة زعماء مصر الكبار في تاريخها الحديث من سعد زغلول ومصطفى النحاس إلى جمال عبد الناصر، ومن استخدم الدين وقال بلا مبرر وطني أنه حاكم مسلم لدولة مسلمة، وهو الرئيس السادات، قامت جماعة إسلامية باغتياله، مما يؤكد الاخطار الهائلة التي تتعرض لها كل دولة تسمح بهذا الخلط المدمر بين ألدين والسياسة.

'تعبير 'أهلي وعشيرتي' يشي بالرؤية الدينية الضيقة التي ينحصر فيها الفكر الاخواني القادم بالضرورة من الماضي الذي يعيشه ويعايشه وجدانيا بشكل دائم، دون رغبة أو قدرة على تجاوز هذا الماضي لمواجهة الحاضر والمستقبل، وهي آفة أصحاب الرؤية الدينية المفرطة بشكل عام وفي كل الأديان وليس في الاسلام فقط.'

وقد أدت هذه الرؤية الدينية الضيقة - التي تنهل من فكر الامام حسن البنا وسيد قطب وليس من''فكر'الشيخ رفاعة الطهطاوي وتلميذه محمد عبده ـ إلى محاولات قام بها نواب الاخوان والسلفيين الأعضاء باللجنة التأسيسية للدستور لحذف لغة تحرم الرق مما يسمح بتزويج القاصرات، وقال هؤلاء علنا في برنامج 'العاشرة مساء' استمعت إليه: وما المانع من زواج البنت في التاسعة أو العاشرة مادامت قد بلغت؟ ونحن لا يجب أن نحرم ما حلله الله'. هذا القصور والتضييق في فهم وتفسير النصوص المقدسة وعدم القدرة على تقديم اجتهادات عصرية للملائمة بينها وبين متغيرات العصر هي آفة الفكر الديني الضيق الذي يحمله الاخوان والسلفيون ويريدون فرضه على بقية المصريين.'

ظهرت افرازات هذه الرؤية الدينية الضيقة على مقترحات وتصريحات القيادات الاخوانية والسلفية سواء في فترة وجودهم الطاغي في مجلس الشعب أو في اللجنة التأسيسية أو في الرئاسة، ورأينا محاولات شبيهة فيما يتعلق بإباحة ختان الاناث، و السماح بعمالة الأطفال، وعجائب أخرى تقع كلها خارج منظومة الفكر المعاصر والمواثيق الدولية لحقوق الالانسان. والواضح أن القدر الأكبر من إهتمام التيار الديني هذا يتعلق بالمرأة وجسدها وما أسماه البعض بفقه الفراش، بينما الملاحظ أن من بين أعضاء هذا التيار بالذات خرجت إلى'النور''أكثر الحوادث الجنسية إفتضاحا وأكثر التصرفات وقاحة والأقوال بذاءة- خاصة الموجه منها تجاه الفنانات المصريات- بما يشي أن جسد المرأة في صورته الجنسية يشكل لديهم هاجسا هائلا لا يستطيعون الفكاك من قوته المتسلطة تماما عليهم.

من علامات الرؤية الدينية الضيقة التي يعمل بها الاخوان نزعة إدارة الدولة بالخطب وليس بالخطط، فنجد أن الرئيس مرسي قد ألقى حوالي ستة وثلاثين ساعة من الخطب في أيامه المئة الأولى، هو معدل هائل، كان يمكن أن يكون هذا مفيدا لو كانت هذه الخطب تقدم معلومات أو أرقام أو سياسات أوخطط لكي  يعرف بها المصريون التحديات التي تواجههم ورؤية الرئيس في مواجهتها، ولكن معظم هذه الساعات كانت خطبا دينية أو مزيجا عاطفيا من الدين والسياسة، فأصحاب الرؤية الدينية للسياسة لا يقدمون سوى الوعظ والارشاد كحــــل لمشاكل المجتمع، وهو ما تعودوا تقديمه في خطبهم في المساجـــــد والزوايا، وفيها أيضا تعودوا أن يستمع لهم الجميع بلا مناقشة أو معارضة، لذلك نجد أن الاخوان هم أكثر إعتراضا وتهجما من نظام المخلوع على ما يقوله الإعلام وما يكتبه الكتاب من نقد لادائهم وخطبهم وسياستهم، وهم يقومون بحملات 'ضارية لترويع وتطويع الإعلام صحفا وتلفزيون، بما في ذلك الترويع المعنوي والبلطجة الشوارعية عندما ارسلوا جحافلهم تحاصر المدينة الإعلامية تروع الاعلاميين وتحطم سياراتهم.'

في نظام الحكم بالخطب لا بالخطط يصبح الخطاب إنجازا في حد ذاته، وقد قال الاخوان أن خطاب مرسي في طهران في مؤتمر دول عدم الإنحياز هو فتح مبين. كما قالوا نفس الشيء عن خطابه في إستاد القاهرة إحتفالا بنصر العبور العظيم، رغم أن دخول الرئيس في سيارة ليس فيها غيره وأربعة من الحراس ولا أحد من قادة نصر أكتوبر ولا ممن يمثلهم من قادة الجيش المصري هو إهانة هائلة، وراح يطوف إستاد القاهرة رافعا ذراعيه تحية للجماهير التي شحنوها بالحافلات من كل مكان'وكأنه القائد العسكري المظفر الذي قد عاد لتوه من الحرب حاملا خبر النصر العظيم الذي حققه في ساحة الوغى. هنا نحن أمام انجازات متوهمة مفتعلة ومنتحلة، هي إستكمال لمشروع النهضة الوهمي وتكملة لوعود إنتخابية لم يتحقق منها شيء في المئة يوم الأولى الموعودة، انجازات الاخوان إلى اليوم هي انجازات صوتية. '

حجم ومدى التخبط والارتباكات والأخطاء والتبريرات لهذه كلها التي ارتكبها الاخوان في بداية حكمهم في غياب أية انجازات حقيقية على أرض الشارع أو حتى في مجال التخطيط النظري تدل كلها على مستوى من الفشل لم يكن يتوقعه أحد، ويرجع هذا إلى سيكلوجية التنظيم الذي يعمل في الظل الذي تعودوا عليه ولم يستطيعوا التخلص منها في قيامهم بإدارة حكم دولة، تجربتهم في الحكم هذه تكش' مدى تخلف فكرهم عن العصر ومدى تهافته حين يظهر في العلن ويخفق في الإرتفاع إلى مستوى فكر وطبيعة المصري المعتدل دينيا الذي يحب الحياة والفرح والفن والضحك والسخرية وكلها تبدو معادية للتزمت الفكري والتضييق الديني الذي يطرحه تيار التدين السياسي. الواضح أن هؤلاء ليسوا مؤهلين لمسؤلية في حجم وثقل إدارة الدولة المصرية التي راحوا يديرونها، كما اتهمتهم القوى الوطنية الأخرى في مظاهرة بميدان التحرير مؤخرا، وكأنها عزبة يملكونها. '

لم يقدم الاخوان في المائة يوم الأولى لحكمهم أية رؤية قومية شاملة أو خطة ممنهجة أو بدأوا مشروعا كبيرا واحدا بل لم يستطع الرئيس مرسي حتى الآن أن يقنع الشعب أنه رئيس لكل المصريين وليس لجماعته فقط، كما حدثت تحت بصره أحداث جسام تهدد أمن مصر القومي'بأبعاده'الخارجية والداخلية، فقد شهدت سيناء أعمالا ارهابية ضخمة'تهدد سلامة أرض'الوطن'لم تعالج إلى اليوم بشكل ناجز، أما داخليا فقد حدثت أعمال تهجير قسرية لعائلات من المواطنين المسيحيين ولم تفعل الحكومة في البداية سوى نفي أن يكون هذا قد حدث، ثم اعترفوا به ولم نر أي تحرك جاد ومسؤول على مستوى هذا الحدث الخطير ولكن معالجة ظاهرية كالتي كان يقوم بها نظام المخلوع، مما زاد من شعور المواطنين المسيحيين بالغربة في وطنهم وبالتهديد في بقائهم.'

أما الخطاب الثاني للرئيس مرسي والذي حمله سفير مصر الجديد وهو يقدم أوراق اعتماده لشمعون بيريز رئيس دولة إسرائيل، فقد كان في حد ذاته من أكبر الفضائح السياسية للاخوان وأكثرها دلالة على أسلوب تصرفهم وسلوكهم، فقد قدم فيه من عبارات التفخيم والإعزاز والوفاء ما لا يقدمه سوى الأصدقاء إلى ألصق وأخلص أصدقائهم، مصحوبة بأحر الأمنيات لدولة إسرائيل والاسرائيليين برغد العيش، خطاب كذبوا حين ادعوا أولا أنه مفبرك، وأمام الدليل بالصورة في جريدة إسرائيلية، اعترفوا بصحته ولكن برروا، كذبا، أن هذه هي الأعراف الدبلوماسية'الدولية، ولكن من بالخارجية المصرية قالوا أن هذا ليس صحيحا وأن الخطاب يحمل عبارات شخصية ومبالغات عاطفية لا تعرفها الدبلوماسية التي يتحدثون عنها.

الخطاب الذي لم يكن يتوقع له الرئيس المصري أن يخرج إلى العلن يكشف احدى خطايا الاخوان الأساسية، وهي القول والعمل علنا بشيء مختلف تماما بل ومناقض لما يقولونه ويعملون به سرا، هذا الاسلوب الملتوي كان هو علامتهم المسجلة في عملهم السياسي منذ نشأتهم، ولهذا كان لديهم التنظيم السري الذي قام سرا بالاغتيالات التي قالوا علنا أنهم ضدها، ولهذا كانوا يعقدون الصفقات'مع النظام الساقط في مصر بينما يشتمونه علنا، ثم رأى المصريون منهم عجبا عندما تنكروا للثوار في أكثر من مناسبة، بل قاموا بمهاجمة وضرب الثوار في التحرير حين تظاهروا ضد الرئيس مرسي وضد أخونة الدولة.

ولكن مدى التناقض بين خطابهم الجماهيري المعلن المعادي لإسرائيل بل والمحض على الجهاد ضدها لتحرير القدس، كما قال مرشد الاخوان في وقت ليس بالبعيد، وبين خطاب الود الزائد من الرئيس مرسي لبيريز في السر، قد فاق كل مخاوف المتخوفين الذين كانوا يحملون بعض الهواجس تجاه الاخوان، بل هو يعزز نظرية المؤامرة المتداولة التي تقول بعلاقة حميمة بين الولايات المتحدة وبين التيار الاسلامي في دول الربيع العربي، رغم انني شخصيا لست من المتحمسين لهذه النظرية، فحتى مبارك كنز إسرائيل الإستراتيجي كان يعمل لحساب إسرائيل في العلن وفي السر بلا تناقض بين الموقفين وكان الجميع يعرفون أين يقف الرجل، لم يكن يعلن ضد إسرائيل جهادا ولا عتادا، ولم يكن يتاجر بالقضية الفلسطينية في خطبه، كان الرجل على الاقل متسقا مع نفسه صادقا مع شعبه. لم يعرف التاريخ المصري سياسيين لهم هذه 'الجرأة 'على الإنقلاب سرا على مواقفهم العنترية الملقاة علنا سوى في زمن حكم الاخوان.
'
'الرؤية الدينية المتزمتة التي يحملها الاخوان للمجتمع والحياة والمرأة والفكر والفن والابداع والحريات تضر بالمجتع وتعطل طاقاته الإبداعية والانتاجية وتدخله في متاهات التدين الشكلي وطقوس العبادات التلقائية التي تستغرق الإنسان والجماعة إستغراقا كاملا مخلا ومعطلا يحرمه من ممارسة الحياة في حرية إبداعية خلاقة هي وحدها طاقة صنع الحضارة والتقدم'في عصرنا.

مالم يغير الاخوان ما بأنفسهم وما في فكرهم وممارساتهم من عوار ونقائص ويقومون بالكف عن أخونة الدولة فلن يشعر بقية المصريين أن ثورتهم الباهرة في 25 يناير قد حققت لهم ما كانوا يحلمون به من بناء مصر'المدنية العصرية'الجديدة، وستظل ثورتهم ناقصة مبتورة.

'كاتب من مصر يقيم في نيو يورك'
2012-10-22