نادر نور الدين محمد
تعانى مصر عجزًا صافيًا فى المياه يصل إلى 22 مليار م3، ولولا إعادة استخدام 20 مليار م3 من مياه المخلفات، لزاد العجز إلى 42 مليار م3، ولذلك اعتمدت الاستراتيجية المصرية لاستخدامات المياه على تقليل الفاقد من المياه خلال شبكة توصيل المياه وداخل الحقول مع زيادة إنتاجية وحدة المياه من الغذاء وتطوير الرى الحقلى.
وذكرت منظمة الأمم المتحدة للمياه UN Water فى تقاريرها أن الفاقد خلال شبكات توصيل المياه من الترع المنشأة فى أراض طينية وطميية يتراوح بين 25-35% بالنشع من جوانبها إلى الأراضى المجاورة أو بالرشح والتسرب من قيعانها إلى طبقة الماء المعلق Water Table والتى تشبع طين تربة منطقة نمو جذور النباتات بالماء فتخنق الجذور نتيجة لنقص الأكسجين ويطلق عليها الفلاح «الأرض طبلت»؛ أى أصبحت تطبل تحت وقع الأقدام عليها نتيجة لتشربها بالماء حتى أصبحت غير صالحة للزراعة أو ضعيفة الإنتاجية.
وفى المقابل، بنيت حسابات كثيرة على أن تسرب المياه إلى جوف الأرض ربما يكون ليس فقدانا للمياه لأنه يغذى المياه الجوفية التى نحتاجها، وهذا ما لم تثبت صحته كما حدث فى أراضى توشكى التى توقعنا أن تشحن مياه فتح المفيض للمياه الجوفية، ولكننا وجدنا أنها شربت طبقات التربة فقط التى تعلو المياه الجوفية ثم سرعان ما تبخرت، وهو ما يحدث فى أراضى الوادى والدلتا، حيث تشحن مياه الترع والنهر الماء المعلق ولا تشحن الماء الجوفى Ground Water، ولذلك أقمنا شبكة الصرف التى تخلص التربة من الزائد من مياه الرى، وتخلصه أيضا من أى أرتفاع من الماء المعلق الناتج من رشح الماء الزائد للرى ومن تسرب مياه الترع، لكى تبقيه على بعد 1.5 متر من سطح التربة على الأقل ليسمح لجذور كافة النباتات والأشجار بالتنفس، ولا يُشبع التربة بالماء فقط ويفرغها من الهواء.
وفى تسرب المياه بالرشح من قاع التربة لا يصح أبدًا سحب هذه المياه بالطلمبات وإعادة ضخها إلى الترع، حيث يعمل ذلك على فتح مسام التربة أسفل قيعان الترع ويزيد من تسرب المياه من الترع، ثم يبدأ بعد ذلك بسحب المياه من الترع نفسها عن طريق مسامية قيعان الترع.. ملخص الأمر أن التسرب بالنشع من الترع يضعف الأراضى على جانبى الترعة ويجعلها متشبعة بالماء وذات نباتات صفراء ضعيفة وقليلة الإنتاجية- وهذا يَعلمه جميع مزارعى مصر- كما يفقدها المياه بالرشح من القيعان إلى الماء العالق وليس الماء الجوفى ويكون مصيره تطبيل التربة والتبخر على المدى الطويل.
لذلك قام خبراء البنك الدولى عام 1980، ثم خبراء الاتحاد الأوروبى، وأيضا خبراء وزارة الرى، مستعينة بأساتذة الجامعات فى دراسة جدوى تبطين الترع وغلق مسام جوانبها وقيعانها ومنع فقدان المياه وأيضا زيادة سرعة جريان الماء وسرعة وصولها للمزارعين، وأقرتها اللجان الدولية والمحلية، وأصر البنك الدولى والاتحاد الأوروبى على سرعة تبطين ترع توصيل المياه وتوزيعها على الحقول والحد من فقدان هدر المياه من دولة تعانى من الفقر المائى العميق مثل مصر وتستورد نحو 65% من غذائها بسبب نقص المياه وإهدارها، وبدأ بالفعل تطبيق هذه الأمور قبل عام 2010، ثم توقفت لفترة وعادت للنور مرة أخرى فى العامين المنقضيين، لأنها بالتأكيد تمنع هدر المياه بالنشع والرشح، وتزيد من كميات المياه الواصلة للحقول وسرعتها ما حقق للمزارعين زراعة مساحات إضافية لم تكن تزرع من قبل بسبب تسرب مياه الترع.. وهذا ما ذكره مزارعو الفيوم لوزير الرى عند زيارته لهم مؤخرا.
أما الاعتراض على أن الأمر كان يتطلب دراسة كل ترعة على حدة من إجمالى 33 ألف كم من الترع، منها نحو 10 آلاف كم قابلة للتبطين وتحديد طريقة تبطينها، فهذا الأمر واقعيا وحقليا قد يتطلب مائة عام، ولكن كان الأفضل اقتراح دراسة كل منطقة على حدة، فمثلا جنوب الدلتا كمنطقة متشابهة فى كل شىء ومختلفة عن أراضى شمال الدلتا المتشبعة بمياه البحر المالحة والتى تضعف تماسك الأسمنت، بالإضافة إلى اختلاف وجود الطين المتمدد والمنكمش عندما يتشرب بالمياه أو يجف مثلما نراه فى الحقول عند تشقق الأراضى فى حال جفافها ثم التحام الشقوق عند ريها بالماء بسبب تمدد معادن الطين بالمياه وانكماشها بالجفاف. هذا الأمر يعمل على تمدد أو انكماش الطين تحت بلاطات الأسمنت ويشققها، لذلك لابد من ترك مسافات بين بلاطات التبطين أسوة بما يحدث فى قضبان السكك الحديد تحسبا لتمدد حديد هذه القضبان.
أما زيادة إنتاجية الحقول من المياه القليلة التى نمتلكها بسبب عدم توافر كميات كبيرة من المياه تسمح بالتوسع الزراعى وإضافة رقعة جديدة إلا بقدر ما نوفره من مياه الفواقد سواء من الترع أو من داخل الحقول أو بمعالجة مياه المخلفات، فيأتى عن طريق استخدام التقاوى (بذور وحبوب) عالية الإنتاجية وزيادة معدلات إضافات الأسمدة إلى المعدلات العالمية الموصى بها، وزيادة استخدام الآلة التى لا تتجاوز نصف المعدلات العالمية للدول المتقدمة، والتحول إلى الزراعة الحديثة والذكية والرقمية.
وأيضا الاعتماد على سياسات التحميل وحسن اختيار الزراعات المناسبة لنوعية أراضينا ومناخنا المتغير من الشمال إلى الجنوب، سواء فى تواجد الأملاح أو احترار الجو.
سياسات التحميل تعنى زراعة نفس الحقل بمحصولين مختلفين فى الطول وفى عمق الجذور حتى لا يتنافسا على الضوء أو على الغذاء من نفس طبقة التربة، مثل أن نزرع فول الصويا تحت نباتات الذرة، وأن نزرع الطماطم والبسلة وغيرهما من الحاصلات الشتوية مع غرس العقل فى حقول القصب فى يناير وفبراير فى الصعيد، أو نزرع الجزر مع البسلة أو نزرع الخضراوات والمحاصيل تحت الأشجار القصيرة أو الصغيرة. سياسات التحميل لن تؤدى إلى الحصول على محصول كامل من كلا محصولى التحميل، ولكن على الأقل نحصل على محصول يبلغ 150% مما لو زرعنا محصولا واحدا، وبذلك نكون قد حققنا زيادة 50% فى الإنتاج من نفس الحقل ومن نفس كمية المياه، مع إضافة جرعات سمادية مناسبة.
«المياه والغذاء والطاقة» أصبحت منظومة عالمية واحدة ومتداخلة، وينبغى الاهتمام بها مجتمعة، خاصة أن الطاقة تمثل 33% من إنتاج الغذاء، مع أخذ احتياطات تقليل المهدر من المحصول ومن المياه.
* أستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة