أحمد الخميسي
كلما أطل علي عام جديد برأسه أجده يمعن النظر في مستفسرا: " ها .. ماذا ستفعل هذه السنة؟ ". أرد عليه بحزم:" سأقلع عن التدخين"، لكني لم أفعل قط رغم كثرة وعودي، وفي رحلة ضعفي هذه كانت صورة نجيب محفوظ تقفز إلي ذهني منذ أن كنا نذهب إليه في ندوته الأسبوعية في ميدان الأوبرا، وكان معظمنا يدخن، أما الأستاذ فكان يسحب سيجارة من علبته كل ساعة بالضبط من دون أن ينظر إلى الوقت في ساعة يده.
وحين تجاوز محفوظ التسعين سمح له الأطباء بسيجارتين فقط في اليوم، وعام 2007 كنا عنده في العوامة" فرح بوت" أنا وأخي جمال الغيطاني، ومد الأستاذ نجيب يده إلى سيجارة فمازحه جمال قائلا:"هذه ثالث سيجارة أستاذ نجيب"، فهز الأستاذ رأسه واثقا وقال:" مستحيل. إنها الثانية". أدهشني بعمق إرادته، الإرادة التي لم تحالف فنانين عظماء مثل سيد درويش الذي أغواه الكوكايين، وأحمد نجم الذي أغراه الحشيش، وغيرهما. وأعرف أن التدخين ضعف وأقرر مطلع كل عام أن أقلع عنه، قررت آلاف المرات منذ أن بدأت في الرابعة عشر أقتبس، اقتباسا وليس سرقة، سيجارة بعد الأخرى من علبة والدي أثناء نومه، فلما انتبه إلى ذلك دفع نحوي على سطح المكتب علبة كاملة وقال:" خذ. دخن". حاولت أن أنكر، فهز رأسه بشكل قاطع وأردف: " دخن .. بلاش كذب". من يومها لم أسحب يدي من الدخان ولا توقفت أصابعي عن إشعال أعواد الثقاب، نحو ستين عاما كاملة، طاردتني خلالها صور ضعف بعض الأدباء وصور قوة ارادة البعض، وعلاقة ذلك بالإبداع والاستمرار فيه. في فبراير 1968 تم اعتقالي مع أخي صلاح عيسى لنحو ثلاثة أعوام، وفي طرة اكتشفت أن السيجارة هي العملة الوحيدة المتداولة بين المعتقلين فحلاقة شعر الرأس بخمس سجائر، كوب الشاي باثنتين، وهكذا. وكانت إدارة الحياة المشتركة بين اليساريين تصرف لكل منا ثلاثة سجائر فقط في اليوم، فاقترح صلاح أن نقوم بتقسيم كل سيجارة إلى ثلاث قطع، وكان عندنا طابور فسحة في فناء رملي، فكان صلاح يتأمل أعقاب سجائر طويلة مرمية في الرمل ويهمس ضاحكا: " ثروات ملقاة على الأرض يا أبو حميد!". ظللنا في هذا الحرمان إلى أن ساقوا إلينا شابا معتقلا جديدا لا نعرفه، تبين أنه من الأثرياء، وكان يحمل في جيبه دائما علبتين كاملتين!! وتبين، لحسن حظنا وسوء حظ الشاب، أنه من هواة التأليف المسرحي، ولما كان المهتمون بالأدب قلة في العنبر فقد طلب منا أنا وصلاح أن يقرأ علينا فصلا من مسرحية كتبها، وكان يجلس على الحشية بالقرب منا ويقرأ، ونحن نردد مع كل كلمة: " الله.. الله..أعد هذه السطور"، و تمتد أصابعنا إلى علبته ونحن نتنهد من شدة التأثر بالفن. ظللنا عدة شهور نقرأ فصلا واحدا من ست ورقات، ويختلج وجهانا بالتأثر، وتختلج أصابعنا نحو العلبة. وبالطبع لم يكن المؤلف ليبخل على حركة النقد النزيهة بشيء. وحين جاءنا الشاب ذات يوم يائسا ليعلن أنه سيتوقف عن الكتابة حل علينا الذهول، وصرخت فيه: " لاء.. لاء.. إياك أن تتوقف.. هذه كارثة.. واعلم أن موهبتك ليست ملكك وحدك"!
كلما أطل علي عام جديد برأسه أجده يمعن النظر في مستفسرا: " ها .. ماذا ستفعل هذه السنة؟ ". أرد عليه بحزم:" سأقلع عن التدخين"، لكني لم أفعل قط رغم كثرة وعودي، وفي رحلة ضعفي هذه كانت صورة نجيب محفوظ تقفز إلي ذهني منذ أن كنا نذهب إليه في ندوته الأسبوعية في ميدان الأوبرا، وكان معظمنا يدخن، أما الأستاذ فكان يسحب سيجارة من علبته كل ساعة بالضبط من دون أن ينظر إلى الوقت في ساعة يده.
وحين تجاوز محفوظ التسعين سمح له الأطباء بسيجارتين فقط في اليوم، وعام 2007 كنا عنده في العوامة" فرح بوت" أنا وأخي جمال الغيطاني، ومد الأستاذ نجيب يده إلى سيجارة فمازحه جمال قائلا:"هذه ثالث سيجارة أستاذ نجيب"، فهز الأستاذ رأسه واثقا وقال:" مستحيل. إنها الثانية". أدهشني بعمق إرادته، الإرادة التي لم تحالف فنانين عظماء مثل سيد درويش الذي أغواه الكوكايين، وأحمد نجم الذي أغراه الحشيش، وغيرهما. وأعرف أن التدخين ضعف وأقرر مطلع كل عام أن أقلع عنه، قررت آلاف المرات منذ أن بدأت في الرابعة عشر أقتبس، اقتباسا وليس سرقة، سيجارة بعد الأخرى من علبة والدي أثناء نومه، فلما انتبه إلى ذلك دفع نحوي على سطح المكتب علبة كاملة وقال:" خذ. دخن". حاولت أن أنكر، فهز رأسه بشكل قاطع وأردف: " دخن .. بلاش كذب". من يومها لم أسحب يدي من الدخان ولا توقفت أصابعي عن إشعال أعواد الثقاب، نحو ستين عاما كاملة، طاردتني خلالها صور ضعف بعض الأدباء وصور قوة ارادة البعض، وعلاقة ذلك بالإبداع والاستمرار فيه. في فبراير 1968 تم اعتقالي مع أخي صلاح عيسى لنحو ثلاثة أعوام، وفي طرة اكتشفت أن السيجارة هي العملة الوحيدة المتداولة بين المعتقلين فحلاقة شعر الرأس بخمس سجائر، كوب الشاي باثنتين، وهكذا. وكانت إدارة الحياة المشتركة بين اليساريين تصرف لكل منا ثلاثة سجائر فقط في اليوم، فاقترح صلاح أن نقوم بتقسيم كل سيجارة إلى ثلاث قطع، وكان عندنا طابور فسحة في فناء رملي، فكان صلاح يتأمل أعقاب سجائر طويلة مرمية في الرمل ويهمس ضاحكا: " ثروات ملقاة على الأرض يا أبو حميد!". ظللنا في هذا الحرمان إلى أن ساقوا إلينا شابا معتقلا جديدا لا نعرفه، تبين أنه من الأثرياء، وكان يحمل في جيبه دائما علبتين كاملتين!! وتبين، لحسن حظنا وسوء حظ الشاب، أنه من هواة التأليف المسرحي، ولما كان المهتمون بالأدب قلة في العنبر فقد طلب منا أنا وصلاح أن يقرأ علينا فصلا من مسرحية كتبها، وكان يجلس على الحشية بالقرب منا ويقرأ، ونحن نردد مع كل كلمة: " الله.. الله..أعد هذه السطور"، و تمتد أصابعنا إلى علبته ونحن نتنهد من شدة التأثر بالفن. ظللنا عدة شهور نقرأ فصلا واحدا من ست ورقات، ويختلج وجهانا بالتأثر، وتختلج أصابعنا نحو العلبة. وبالطبع لم يكن المؤلف ليبخل على حركة النقد النزيهة بشيء. وحين جاءنا الشاب ذات يوم يائسا ليعلن أنه سيتوقف عن الكتابة حل علينا الذهول، وصرخت فيه: " لاء.. لاء.. إياك أن تتوقف.. هذه كارثة.. واعلم أن موهبتك ليست ملكك وحدك"!
أتذكر كيف كنا في روسيا ندخن السجاير الروسية وكانت سيئة مشبعة بالرطوبة، فكنا نضع العلب قبل أن ندخنها على مدفأة لطرد الرطوبة أو كما كنا نقول: "من أجل تحميصها"، وعندما عدت إلى مصر زارتنا زميلة كانت ماتزال تدرس هناك وقدمنا لها سيجارة مارلبورو فأمسكتها بين أصابعها وسألتنا بجدية: " محمصة؟ ". مع ذلك كله فإنني مع إطلالة العام الجديد سأكف عن التدخين، حتى لو احتاج الأمر في البداية إلى فنجان قهوة وسيجارتين.
عام جديد سعيد نحقق فيه بعض الأمنيات الطيبة.
نقلا عن الدستور