كمال زاخر
كنت فى السنة النهائية فى مرحلة البكالوريوس، حين أعلنت الكنيسة اختيار البابا الجديد، وحددت موعد تجليسه، وكم كانت فرحتنا غامرة، لفيف الشباب الجامعى وقتها، ونحن نهنئ انفسنا بعهد جديد يترجم الصورة النموذجية للكنيسة التى رسمها اسقف التعليم فى سطوره الملتهبة فى مجلة "الكرازة" وقبلها فى مقالاته الثورية التى لا تنقصها الجرأة فى مجلة "مدارس الأحد" حتى لحظة دخوله الدير قاصداً الرهبنة.
14 نوفمبر 1971 كان يوماً فارقاً حرصنا على متابعته بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية والتى كانت وقتها تحت الإنشاء، وقد انتهت فيها الانشاءات الخرسانية وتتهيأ للتشطيب، كان حدثاً مهيباً، شارك فيه وفود من الكنائس الشقيقة، وشاركوا فى صلوات التجليس كل بلغته، فتناغمت الأمهرية واليونانية والسريانية مع القبطية والعربية.
كانت البداية طابور طويل من الشمامسة يتقدم الآباء المطارنة والاساقفة يحيطون بالأسقف المزمع اقامته بطريركاً، يقطع المسافة بين الكلية الإكليريكية والكاتدرائية، يردد الألحان الكنسية، ويتوقف أمام باب الكاتدرائية الموصد، يتقدم الأنبا انطونيوس مطران سوهاج والذى اختير ليتولى مهام القائمقام، ويقول بصوت جهورى موجهاً كلامه للأب الأسقف المختار "تسلم مفتاح كنيسة الله المقدسة التى اقامك عليها لترعى شعبه وتغذيه بالتعاليم المحيية، وقد إئتمنك على نفوس الرعية ومن يديك يطلب دمها"، فيرد بصوت خاشع "افتحوا لى ابواب البر لكى ادخل فيها واعترف للرب هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه اعترف لك يارب لأنك استجبت لى وصرت لى مخلصاً" وهى كلمات من المزمور 118 بحسب الترجمة القبطية.
ثم يفتح باب الكنيسة ويواصل الموكب مساره حتى يصل الى مقدمة الكنيسة وتتواصل صلوات التجليس التى تعلن فرح الكنيسة بافتقاد الله لها فى اقامة أب بطريرك يواصل مسيرة اسلافه فى قيادة نفوس الرعية فى طريق الأبدية والملكوت.
ـ ندعوك أنبا شنودة بابا الكرازة المرقسية بابا وبطريرك وسيد الكرازة المرقسية
ـ دعوناك يا انبا شنودة بابا وبطريرك وسيد الكرازة المرقسية.
ـ تسلم تقليد رئاسة الكهنوت لسنين كثيرة وأزمنة سالمة هادئة مديدة
ـ نُجلِّس الانبا شنودة رئيس الاساقفة على الكرسى الطاهر كرسى الرسول الإنجيلى مرقس ...
ـ نُجلِّس رئيس الرعاة الانبا شنودة بطريركاً على كرسى القديس مرقس
ـ اجلسنا الانبا شنودة بابا الاسكندرية وبطريركاً على الكرازة المرقسية الكرسى الرسولى كرسى القديس مرقس الانجيلى.
وتنبه الكنيسة الأب البطريرك مجدداً بما قالته له وهى تسلمه مفتاح الكنيسة :
ـ ارع رعية الله التى اقامك الروح القدس عليها لترعى شعبه وتغذيه بالتعاليم المحيية، وقد إئتمنك على نفوس الرعية ومن يديك يطلب دمها".
نفس هذا التنبيه الصارم تردده الكنيسة فى رسامة وتجليس الأساقفة، ويتبين لنا منه محور عمل الأسقف ودوره الأساسى فى خدمته، إرع رعية الله، غذيها بالتعاليم المحيية، وتنبهه أن من يديه يطلب دمها.
ربما لهذا كان اباء البرية الواعون يهربون من قبول هذه الرتبة ـ الأسقفية ـ وفى احيان كثيرة يقيدونهم بالحبال ويأخذونهم عنوة الى حيث الرسامة، وهروبهم لم يكن من باب التواضع أو الهرب من مجد الرتب القيادية، إنما فى ظنى أنهم كانوا يستحضرون لحظة وقوفهم أمام الله فى اليوم الأخير، وماذا سيجيبونه عندما يطلب منهم كشف حساب الرعاية؟.
• عن الذين سقطوا أو انحرفوا أو هجروا دفء الكنيسة.
• وعن البيوت التى خربتها الكراهية وخرج منها سلام المسيح،
• وعن استغراق قد يبتلعهم فيغتصبون مجد الله لأنفسهم، أو يتشبهون بملوك وأمراء العالم، ويتحول سلطانهم الروحى إلى سلطة تُقصى وتُقَرّب بقياسات العالم.
• ماذا لو سؤلوا عن تبديد فلسى الأرملة، وعطايا القادرين، فى عيش مسرف، والذى غالباً ما يجد له تبريراً؟!،
• أو عن انشغاله بكرامة المتكأ الأول وحقوقه، كما يظنها، وصراعاته مع المتطلعين إليه والمناوئين أيضاً؟!.
• أو عن استدعائه لأدوات السياسة خارج سياجات الكنيسة ليوظفها فى التدبير الكنسى، فتتفاقم متاعبه ومتاعب الكنيسة معه.
أذكر يوماً التقيت بأحدهم وكان مزهواً بتدقيقه فى الطقوس وتفرده بطلاوة الصوت فى الصلوات حتى أنه اشتهر بكروان الإكليروس، الأمر الذى ترجمه فى التعامل بحدة مع الرعية، وحين سألته عن ما يبدو عليه من حزن رغم كل الأضواء التى تحيط به، راح يشكو أن الشعب لا يعطيه ما يستحقه من كرامة، وقبل أن ارد، واصل كلامه، هذا حقى الكتابى "الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟".
فقلت له "هذا اجتزاء من سياق النص بل واغتصاب حق أصيل لرب الجنود ونسبته لك؛ دعنا نقرأ النص مكتملاً" ....
(الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ. أَيُّهَا الْكَهَنَةُ الْمُحْتَقِرُونَ اسْمِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ احْتَقَرْنَا اسْمَكَ؟ تُقَرِّبُونَ خُبْزًا نَجِسًا عَلَى مَذْبَحِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ نَجَّسْنَاكَ؟ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ مُحْتَقَرَةٌ. وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْمَى ذَبِيحَةً، أَفَلَيْسَ ذلِكَ شَرًّا؟ وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْرَجَ وَالسَّقِيمَ، أَفَلَيْسَ ذلِكَ شَرًّا؟ قَرِّبْهُ لِوَالِيكَ، أَفَيَرْضَى عَلَيْكَ أَوْ يَرْفَعُ وَجْهَكَ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَالآنَ تَرَضَّوْا وَجْهَ اللهِ فَيَتَرَاءَفَ عَلَيْنَا. هذِهِ كَانَتْ مِنْ يَدِكُمْ. هَلْ يَرْفَعُ وَجْهَكُمْ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.) (ملاخى 1 : 6 ـ 9).
كانت النتيجة أنه قاطعنى حتى رحل عن عالمنا!!.
كان السؤال الملح والذى يحاصرنى ويطاردنى منذ ذلك اليوم كيف يمكن للأب الأسقف، على الأقل فى حدود ايبارشيته، أو كرازته، أن يتابع ويرعى رعيته، فى عالم لم تعد الكنيسة هى المكون الوحيد لفكر وعقل ووجدان المرء، وقد ازداد الأمر تعقيداً مع التطورات المتلاحقة التى شهدها العالم بأسره، وضغوط الحياة خاصة فى عالمنا الثالث، والتحديات التى تحاصرنا فى بلادنا بشكل أكثر تحديداً؟. وهو فى امتحان يومى ومتجدد، ويدرك وفق تنبيه الكنيسة له فى رسامته أو تجليسه أنه سيعطى عنها حساباً.
يا الله ... كم هو مهوب ومرعب الوقوف بين يديك ...
ادرك الآن لماذا تلح الكنيسة على بنيها أن يصلوا من أجل الرعاة، ولماذا تتنوع وتتشعب وتتصاعد الحروب الروحية ضدهم، واتفهم معنى أنهم يخلصون كما بنار!!.
اخشى أن اقارن بين الشرق والغرب فى خبرات التطور الإنسانى فيما يتعلق بما نتناوله هنا، حتى لا يختطفنا المتربصون إلى الجدل العقائدى ويعودون للتأكيد على ما وقر عندهم، أنهم الفرقة الناجية، وأن الملكوت لن يتاح لغيرهم، لذلك ادعوهم لمراجعة بساطة ملابسهم بما انتهينا إليه، وأن يقارنوا حضورهم محملين برسالة السلام يطرقون ابواب العالم خاصة فى الدوائر المخالفة لهم سواء مذهبياً أو دينياً، فيما نصدّر فى شرقنا السعيد خطاب الاستعلاء، ونصطحب معنا "حرومات" نوزعها على غيرنا بسخاء ولا نُعمِل فيها التحليل المنطقى والذى قد نكتشف به أن كثيرها ابن صراعات وقتها وكان للسياسة حضورها. وبعضها نتج عن اختلاف الثقافات وربما اللغات بين اللاتينية واليونانية. وهو ما كشفت عنه الدراسات الأكاديمية الحديثة.
هل نعيد النظر فى واقعنا الأسقفى وربما الإكليروسى بجملته، لنضبط ايقاعه ـ شكلاً وموضوعاً ـ على تكليفات الإنجيل لهم، مقتدين برب المجد وهو يقدم كشف حساب لله الآب فى صلاته الوداعية فى البستان:
حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك الذين اعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم احد الا ابن الهلاك ليتم الكتاب (يو 17 : 12).
ومازال للطرح بقية ...