مجلة الكرازة
04 نوفمبر 2022 م
25 بابة 1739 ش
كمال زاخر
بعد نياحة البابا شنوده الثالث في مارس 2012م، وقيام الكنيسة بإجراءات اختيار البابا الجديد في سلسلة من المراحل القانونية استمرت حتى نوفمبر 2012م، وشاءت العناية الإلهية أن تكون القرعة الهيكلية يوم عيد ميلادي الستين 4 نوفمبر 2012م، ويختار الله ضعفي لهذه المسئولية الكبيرة وهذا ترتيب عجيب (وبالمناسبنة كانت خطوبة والدي لوالدتي في نفس اليوم عام 1948م!!!)..
وقبل صلوات التجليس الذي تم في 18/11/2012م ذهبت إلى أب اعترافي المتنيح الأنبا صرابامون أسقف ورئيس دير الأنبا بيشوي العامر، وجلست أمامه حاملًا مخاوفي وأفكاري وضعفاتي وعلامات الاستفهام المتشابكة في عقلي وقلبي، وطرحت ما في داخلي عن هذه المسئولية الخطيرة والتي لم أفكر فيها على الإطلاق في أي وقت مضى.
واستمع لي بكل أناة وانتباه، وربما كان يصلي في داخله ثم قال: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 3)، وكرر هذه الكلمات ثلاث أو أربع مرات وأنا كلي إنصات واستماع وألاحظ وجهه البشوش وهو يقولها كرسالة اطمئنان وسلام وتأكيد على حضور الله في كل أيام حياتنا. ورغم أن هذه الآية نصلي بها كل يوم ضمن فقرة إنجيل صلاة باكر في الصباح، وبالطبع أحفظها تمامًا، إلّا أنه عندما نطق بها أب اعترافي فتحت أمامي نافذة رجاء وطمأنينة، وانساب سلام هذه الكلمات كوعد إلهي إلى قلبي، وتبخرت مخاوفي وأفكاري وهو –أب اعترافي- يشرح في كلمات بسيطة هذا الوعد والضمان الذي يجعل الخادم أو المسئول في أمان واطمئنان لمجريات الأمور والأيام.
واليوم، وبعد عشر سنوات من التجليس، ما زال صدى هذا الوعد يتردد في داخلي، وأتجاسر أن أقول إنه يتردد كل يوم. فالأحداث سواء مفرحة أو مؤلمة، وسواء عادية أو استثنائية، صغيرة أو كبيرة، متوقعة أو مفاجئة، فردية أو جماعية... مهما كانت الأحداث فإنها في يد الله الذي به كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان.
وها هو العمر يتقدم وهو شيء يحدث بلا هوادة ولا نقدر أن نوقفه، ولكن مع السنين نزداد حكمة ونضوجًا وفهمًا أفضل للأحداث والأشخاص والمواقف، حتى بعد أن أخذنا نصيبنا من خيبات الأمل والإحباط وربما حتى مواقف الخيانة بأيّة صورة وبأيّة درجة، ولكن المهم أن تجد الله في الأحداث أمامك لأنه بدون الله ستجد طعم المرارة في الأيام.
إن الحياة رحلة ذات مغزى وهي مضبوطة تمامًا بيد الله ضابط الكل، وليست الشيخوخة متعلقة بالجوانب الجسدية من وهن أو ضعف فقط، ولكن المهم الجوانب النفسية والروحية والعقلية التي يجب أن تمارس نشاطها في مجالات عديدة كمواصلة الدراسة والقراءة والكتابة والصلاة والنمو والتأمل والتعمق في فلسفة الحياة وهي مليئة بالوعود والإمكانات والآمال وتعلُّم مهارات جديدة أو الذهاب إلى خبرات جديدة، ونواصل تقديم محبتنا ومواهبنا إلى العالم أجمع. وما أجمل اختبار القديس بولس الرسول وهو في حطام السفينة في عرض البحر الأبيض المتوسط وكان أسيرًا محولًا إلى المحاكمة في روما حين قال «سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ» (أعمال 27: 15).
والمتأمل في الحياة سيجد هناك ألغازًا وعجائب في كل مكان داخلنا وحولنا، فمثلًا ونحن مستلقون على الفراش نستمع إلى دقّات قلوبنا ولكن نادرًا ما ندرك أن كوكب الأرض يدور حول الشمس آلاف الكيلو مترات في الساعة الواحدة بينما نحن في حالة سكون كامل.
ومن هنا نفهم أن الله يضبط الكل، سواء دقات القلب أو حركة الأرض، وبالتالي تظهر روعة الأشياء في حياتنا والتي يجب أن نفكر فيها ونتأمل في خالقها بدلًا من إضاعة الساعات في أشياء طائشة تفقدنا الاحساس بالروعة والدهشة، لأننا عندما نشعر بيد الله التي تدير كل شيء بحكمة ومعرفة وقوة وإبداع، سنشعر بأننا في منتهى الطمأنينة وسلمنا فصرنا نُحمَل بالحقيقة.
لقد خبرت في هذه السنوات الماضية ثلاث خبرات قوية:
الأولى: قيمة الوقت:
هو أساس كل عمل أو إنجاز أو مشروع ويجب أن نقدّر قيمة الوقت دائمًا عالمين أن الله يصنع كل شيء حسنًا في وقته (جامعة 3: 11). «فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ» (أفسس 5: 15).
الثانية: قيمة النعمة:
ونعم الله عديدة ومتنوعة وفيّاضة في كل صباح سواء مادية أو معنوية، مرئية أو ملموسة، والمهم أن يشعر الإنسان بها ويقدّرها ويشكر الله عليها في كل حين في كل مكان، ويعيش حياة التقوى المليئة بحلاوة الرضا والامتنان.
الثالثة: قيمة المحبة:
«لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا» (رومية 5:5)، وعندما تتعامل بهذه المحبة مع كل أحد مهما كان ومهما صنع ومهما كان رد فعله، فاعلم أنك الفائز لأنك لم تدع الكراهية تدخل قلبك عالمًا أن «اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا» (1كو13: 😎.
والخلاصة أن هذه الثلاث: الوقت والنعمة والمحبة هي ركائز أساسية لحياة الإنسان خاصة وهو يفتتح مرحلة جديدة في الحياة.
لقد تذكرت عبارة قرأتها منذ بضعة أعوام يمكن أن تصير بلسم راحة كل أوان: "على طول الطريق يقودني مخلصي، فلا أريد شيئًا سواه. هل أستطيع أن أشك في رحمته الرقيقة، التي كانت مرشدي طول الحياة".
كل سنة وجميعكم بصحة وخير وسلام...