زاهى حواس
توقفنا فى المقال السابق عندما عاد لورد كارنارفون، ممول الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون، وهيوارد كارتر، مكتشف المقبرة، إلى مصر فى شهر فبراير عام ١٩٢٣، وذلك لكى يقوما باستئناف العمل وفتح مقبرة توت عنخ آمون رسميًّا، وكذلك البدء فى إخراج الكنوز الذهبية من المقبرة إلى لندن حسب مخططهما!، والحقيقة أن اللورد كارنارفون وكارتر كانا على ثقة تامة أن نصف كنوز الملك، إن لم تكن كلها، سوف تكون من نصيب اللورد كارنارفون يتصرف بها كيفما يشاء سواء بالبيع أو الاحتفاظ بها!، بل الأغرب من ذلك أن اللورد الإنجليزى أصبح بالفعل يتصرف فى الكنز حسبما يشاء ودون العودة إلى أحد، حتى الحكومة المصرية، بدليل أنه وحده قام ببيع الحقوق الحصرية لنشر أخبار الكشف الأثرى لجريدة اللندن تايمز بمبلغ خمسة آلاف جنيه استرلينى!، كما لو كانت المقبرة قد تم اكتشافها أسفل أرضية غرفة نومه فى قصره بـ«هاى كلير» بإنجلترا!.
ويبدو أن القدَر كان رحيمًا بالمصريين وبكنوز ملكهم الذهبى، فلم يكد شهر إبريل ١٩٢٣ يبدأ إلا ويُصعق هيوارد كارتر بخبر وفاة الل
ورد كارنارفون، وذلك فى يوم ٥ إبريل ١٩٢٢. وفى الحقيقة، ورغم المشاكل وصراع السلطة على الكنز، والتى كانت بوادرها قد بدأت فى الظهور بين كارتر وكارنارفون، فإن وفاة الأخير المفاجئة أضعفت كثيرًا من موقف كارتر، الذى ظل يحارب بدعوى أحقية عائلة اللورد فى الاحتفاظ بالكنز، أو على الأقل اقتسامه بين العائلة والحكومة المصرية. وقبل أن نغلق صفحة اللورد المتوفى، ونكمل الحكاية مع كارتر، لابد من التنويه بأن الل
ورد كارنارفون كان يخطط لأن يكون هو وحده فى مقدمة المشهد، وفى كل خبر عن الكشف عن المقبرة، وكان يتحدث كما لو كان المكتشف الأصلى للكنز، وأنه هو مَن بدأ فكرة البحث عن
مقبرة توت عنخ آمون. بالطبع كان اللورد يخشى أن ينحصر دوره فى كونه فقط حافظة النقود التى مولت الكشف. ولهذا السبب بدأ اللورد فى معاملة كارتر بجفاء، وحاول إقصاءه بعد أيام قليلة من الكشف، لكن الأخبار كانت قد انتشرت فى العالم كله، ولم يكن أمام اللورد سوى الرضوخ للأمر الواقع والتعامل مع هيوارد كارتر على مضض.
انتهى الموسم الأول بعد أيام قليلة من وفاة اللورد، ويعود كارتر إلى إنجلترا لقضاء الصيف والتفكير كيف سيقوم بالحفاظ على الكنز وتخليد اسمه معه. وكانت الخطوة الأولى فى النجاح بإبقاء الحق فى الكشف باسم السيدة إيفيلين، ابنة الل
ورد كارنارفون، التى قامت أيضًا بتجديد العقد مع لندن تايمز لموسم آخر، وقبضت الثمن.
فى أكتوبر ١٩٢٤، يعود كارتر إلى
مصر ليبدأ الموسم الثانى، وتتواصل المشاكل بين كارتر والمصريين، ويرفض كارتر السماح لوفد من كبار الموظفين المصريين بزيارة المقبرة، فى حين كان يريد السماح لزوجات مساعديه وصاحباتهن الأجنبيات بالدخول إلى المقبرة لحظة الكشف عن مومياء الملك!، ومرة ثانية كان كارتر يتصرف من خلال النزعة الاستعمارية المتأصلة فى نشأته كإنجليزى، على الرغم من انتمائه لأسرة فقيرة، وعلى الرغم من تصنيفه جاهلًا أو إنسانًا غير متعلم فى الأوساط الإنجليزية الأرستقراطية، كما أوضحنا من قبل فى مقالات سابقة.
كان كارتر قد استعد للكشف عن مومياء الملك، ففى ١٢ فبراير ١٩٢٤ تمكن كارتر من رفع غطاء التابوت، الذى ظل مُعلَّقًا بالحبال فوق التابوت الحجرى، الذى يضم التوابيت الداخلية للملك. وتُعتبر صورة غطاء تابوت توت عنخ آمون وهو معلق فى سقف حجرة الدفن من الصور الدرامية التى نجح فى التقاطها هارى برتون، مصور البعثة، والتى انتشرت فى العالم كله لتجذب الملايين لأخبار الكشف الذهبى.
بمجرد تولى مرقس باشا حنا وزارة الأشغال، التى تقع فى نطاقها إدارة مصلحة الآثار، وذلك فى ٢٨ يناير ١٩٢٤، يبدأ مرقس باشا، المعروف بكراهيته للإنجليز، ومحاربته وجودهم فى
مصر، فى تحيُّن الفرصة لطرد كارتر من
مصر. ولكى نفسر سبب العداء بين مرقس باشا حنا والإنجليز، لابد لنا من فهم مَن هو مرقس حنا، ذلك الشاب الوطنى العبقرى، الذى درس القانون فى باريس، وعاد ليصبح عضو نقابة المحامين، وبعدها نقيبًا للمحامين. كان وطنيًّا مؤيدًا لمصطفى كامل، ثم وفديًّا مناصرًا لسعد باشا زغلول، الذى بمجرد أن نفاه الإنجليز إلى جزيرة سيشل، أو ما سُمى النفى الثانى، قام الإنجليز بالقبض على مرقس حنا ومعه ستة أشخاص آخرين، هم كبار أعضاء الوفد، وتمت محاكمتهم بتهمة الخيانة والتحريض بواسطة محكمة عسكرية إنجليزية أصدرت على مرقس حنا والآخرين حكمًا بالإعدام، وذلك فى يوليو ١٩٢٢، وبمعجزة يتم تخفيف الحكم إلى سبع سنوات سجنًا وغرامة ٥ آلاف جنيه للسبعة، ومنهم مرقس حنا، الذى خرج بعد أن أمضى فى سجن قرة ميدان ثمانية أشهر مع القتلة والمجرمين واللصوص. وفى أثناء سجن مرقس حنا تم اكتشاف
مقبرة توت عنخ آمون، بل وفاة الل
ورد كارنارفون، وإسقاط وزارة عبدالخالق ثروت، الموالية للإنجليز، والتى كانت ستعدمه هو وأصحابه. وينجح مرقس حنا بعد قليل فى أن يصبح وزيرًا للأشغال، فى أول وزارة يشكلها الوفد، برئاسة سعد باشا زغلول، فى نهاية يناير ١٩٢٤، وكان هيوارد كارتر يعد تجهيزات فتح تابوت الملك الذهبى توت عنخ آمون.
بمجرد أن سمع مرقس باشا حنا بما صنعه كارتر مع المصريين، وما يريد أن يصرح به لزوجات أعضاء فريقه، حتى بعث لـ«بيير لاكو» أمرًا بإغلاق المقبرة، وتسلم مفاتيحها من كارتر، بل قام حنا باشا بإرسال عربة شرطة مع بيير لاكو لتنفيذ الأمر.
يستشيط كارتر غضبًا لما اعتبره إهانة، ويقوم على الفور بإغلاق المقبرة من جانبه وحده، ويرفض تسليم مفاتيحها، بل يقوم بكتابة بيان غاضب يعلقه على باب فندق الونتر بالاس بالبر الشرقى. وتقوم جريدة لندن تايمز بالهجوم على مرقس حنا، واعتباره عدوًّا لبريطانيا العظمى، وكارهًا للإنجليز. بينما فى
مصر يكتسب مرقس حنا المزيد من الشهرة، وهو المعروف سابقًا بمواقفه الوطنية، التى أحرجت الاحتلال البريطانى، الذى اتهم المصريين بأنهم لا يهتمون بالآثار، ويعتبرونها آثار الكفرة، بدعوى أن المصريين مسلمون متشددون، فيفاجأون بمرقس حنا، المصرى المسيحى، يقود المصريين مسلمين ومسيحيين مدافعًا عن بقاء الملك توت وكنوزه فى
مصر بوصفه واحدًا من أجداد المصريين.
نعود إلى كارتر الذى عاد إلى القاهرة ليرفع قضية فى المحكمة ضد الحكومة المصرية مُصِرًّا على حق عائلة اللورد الراحل كارنارفون فى الحصول على جزء من المقبرة، ويتم تداول القضية فى المحكمة، وعندما يستشعر كارتر اليأس يعود إلى إنجلترا، ومنها يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فى جولة لإلقاء سلسلة من المحاضرات عن الكشف عن
مقبرة توت عنخ آمون.
النقطة الفارقة والحظ يخدم كارتر مرة أخرى وللأبد!.
فى يوم الخميس ٢٠ نوفمبر عام ١٩٢٤ تقوم مجموعة من الشباب المصرى بإلقاء قنبلة على سيارة السير لى ستاك، حاكم السودان، بينما كان خارجًا من مبنى وزارة الحربية المصرية متجهًا إلى منزله بحى الزمالك. ويتم إعلان وفاة السير لى ستاك فى اليوم التالى متأثرًا بجراحه. وتصبح وزارة سعد باشا زغلول فى حرج شديد بعد اغتيال لى ستاك، ولم يكن هناك حل سوى استقالة الحكومة، ومن ضمنها وزير الأشغال مرقس باشا حنا، العدو العنيد لعمل كارتر فى
مصر.
وتنتهز إنجلترا حادث مقتل السير لى ستاك فى فرض المزيد من النفوذ والسيطرة. وتحاول الوزارة الجديدة تهدئة الوضع مع الإنجليز، ويتم النظر فى الخلافات التى نشبت خلال وزارة سعد باشا زغلول، والتى من ضمنها الصراع على
مقبرة توت عنخ آمون، ويتم استدعاء كارتر إلى
مصر، وبحضور بيير لاكو وليدى كارنارفون، يتم الاتفاق على البنود التالية: يقوم كارتر وليدى كارنارفون بالتنازل عن جميع القضايا المرفوعة ضد الحكومة المصرية. وبموجب هذا التنازل يتوقف كارتر وليدى كارنارفون عن المطالبة بأى جزء من المقبرة. وفى المقابل يتم تعويض ليدى كارنارفون وعائلة اللورد الراحل كارنارفون بمبلغ ٣٦ ألف جنيه استرلينى تمثل جملة ما تم إنفاقه من قِبَل اللورد الراحل فى البحث والكشف عن المقبرة. وبناء عليه يتم إلغاء تصاريح ليدى كارنارفون بحق الحفر فى وادى الملوك، على أن يقوم كارتر وفريقه باستئناف العمل بالمقبرة بتمويل خاص من مصلحة الآثار وتحت سلطة رئيس مصلحة الآثار.
وبهذا الاتفاق المذهل ينتهى، وللأبد، الصراع على كنز توت عنخ آمون، بل تنجح الحكومة المصرية فى دفع كل مليم تم إنفاقه على الكشف، بل لم تستثنِ أو تقتطع الأموال التى تحصّل عليها اللورد وابنته من جريدة لندن تايمز أو أى أموال أخرى حصلا عليها بعد الكشف.
لقد تكفلت
مصر منذ تاريخ هذا الاتفاق بالكشف عن مقبرة أحد ملوكها، ودفعت كل المال الأجنبى، الذى كان سيتم أخذه ذريعة للاستيلاء على كنز ملكها الذهبى توت عنخ آمون. وتلك كانت القصة، التى لا يعرف فصولها كثير من الناس داخل وخارج
مصر. لكن يبقى سؤال مهم!. هل سرق هيوارد كارتر بعض كنوز الملك توت عنخ آمون؟، هذا ما سنعرفه فى مقالنا القادم بإذن الله.
نقلا عن المصرى اليوم