فؤاد إبراهيم
إن ما حدث لتقلّص المسيحية عند الألمان خاصة والأوربيين عامة لم يحدث بين يوم وليلة. بل أن لهذا جذور عميقة فى التاريخ.
والأرجح انها بدأت فى فى القرن السابع عشر والثامن عشرالميلادى نتيجة للحروب الضارية بين البروتستانت والكاثوليك التى راح ضحيتها ملايين من البشر وأبادت شعوباً وممالك بأسرها. وكان شعب كل مقاطعة يُجبر على إتّباع مذهب الحاكم المنتصر علية.
وكذلك تسببت الحربان العالميتان فى القرن العشرين فى قتل عشرات الملايين من البشر وتدمير معظم المدن الألمانية. وفقدت ملايين من النساء ازواجهنواخوتهن وابناءهن وتدمرت بيوتهن واضطررن إلى النزوح الى مدن أخرى كمهاجرين غُرباء. كل هذه الكوارث إضعفت إيمان الناس بكنيستهم. وقد استطاع هتلر فى مدة حكمه أن يُضعف المسيحية فى ألمانيا كلها بإحلال بديل لها من الأيديولوجيات النازية والجيرمانية، ونجح فى غسيل مُخ الأطفال والشباب فى المدارس ونوادى ومعسكرات "شباب هتلر".
وبالمثل إستطاعت الشيوعية الروسية أن تمحو الهوية المسيحية فى المانيا الشرقية.
ولذا نرى انه بعد موت الجيل القديم فى ألمانيا أخذت المسيحية فى الضمورالسريع. وزاد الطين بلّة فى السنوات الأخيرة إكتشاف فضائح الكنائس الألمانية وخاصة الفضائح الجنسية والمالية، فهجر الملايين كنائسهم.وأصبحت خاوية ومعروصة للبيع.
وحتى نستطيع أن نتناقش مع الألمان فى المسائل الدينية المسيحية يجب أن نكون على معرفة بإتجاهات الألمان الفكرية المعاصرة التى تخص المسيحية، التى منها على سبيل المثال:
1. إعمال العقل فى كل شئ، فلا تستطيع مثلا أن تقول لهم أن الإيمان يكون بالقلب لا بالعقل.
2. الثقة فى العلم، فمثلا نظرية تطور الكائنات الحية أو جيولوجية تكوين الأرض كقطعة صغيرة إنفصلت عن الشمس من اربعة مليارعام، هى نظريات مُعترف بها عند الغالبية العظمى من الأوربيين، وتُدرّس فى المدارس.
3. معظم الألمان لا يؤمنون بالمعجزات ولا بالجنّة والنار والملائكة والشياطين والحياة بعد الموت.
4. معظم الألمان لا يؤمنون بقدسية ألإكليروس، بل يعتقدون أن فضائح الإكليروس الأخيرة من ضمن أسباب ضعف المسيحية.
5. الغالبية العظمى من الألمان لا يعتبرون أن الرجل رأس المرأة، ويساوون تماما بين الجنسين، ومعظمهم يعارضون إقتصارالوظائف الكهنوتية على الرجال.
6. معظم الألمان لا يعتقد أن الكنيسة لها فائدة تُذكر فى حياتهم. وحتى الذين ما زالوا يؤمنون بالمسيحية لا يذهب إلى الكنيسة أكثر من 5% منهم.
هذه بعض الامثلة القليلة لنظرة معظم الألمان إلى المسيحية دون الدخول فى المسائل اللاهوتية العميقة، التى بها الوضع شائكا أكثر من ذلك.
هذا لايعنى أن كل الألمان قد زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، إذ مازال فى وسطهم فتائل كثيرة مُدخّنة تدعو الى الأمل، ومن الامثلة على ذلك ما يلى:
- نجد عدداً كبيرا من الألمان يتبرع بسخاء لمساعدة الناس المساكين فى أفريقيا وآسيا وامريكا الجنوبية عندما تقع بهم كارثة، ويقومون فى بلدهم بمساعدة الغرباء والفقراء والمرضى والمعاقين والذين لامأوى لهم.
- مازال عدد لا بأس به من كبار السن مخلصون لكنائسهم.
- يوجد كهنة كثيرون طيبوا القلب ومنفتحون للتعاون معنا فى أى خدمة مشتركة، ويقدموا كنائسهم لنا للصلاة بها. رغم أن حدوث العكس فى مصر يُعدّ من رابع المستحيلات!
- يتّسم عدد كبير من الشباب الألمانى بالمثالية، فرغم عدم ترددهم على الكنيسة فهم يشتركون بحماس فى نشاطات لخدمة المجتمع وللحفاظ على البيئة الطبيعية وانقاذ المحيطات من التلوث بالمواد البترولية والنفايات البلاستيكية، وحماية الارض من دمار التصحر الناتج عن قطع الغابات وزيادة انبغاث ثانى أكسيد الكربون وغاز الميثان التى تؤدى إلى الإحتباس الحرارى وتغير المناخ واختراق طبقة الأوزون التى تحمى ضد سرطان الجلد وموت خلايا الكائنات الحية والنباتات. هذه الفئة من المثاليين ليس من الصعب جذبهم للسيد المسيح لأنهم أصحاب مبادئ سامية.
ماذا يمكننا عمله بصفتنا مواطنين ألمان بهوية قبطية-أوروبية؟:
- ليتنا نحاول أن نبنى الجسر بين العقلانية والإيمان المسيحى حتى نستطيع أن نتفاهم مع الأوروبيين على مستوى علمى منطقى مقبول. فليس من الصعب التوفيق بين العلم والدين إذا أخذنا بروح المكتوب فى الكتاب المقدس وليس بحرفيته، مثلما كتب القمص يوحنا نصيف:
"المطلوب هو جوهر الوصيّة وروح الوصيّة وليس التمسُّك بحَرْفيّة الوصيّة، كما يقول معلّمنا القديس بولس: "لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل ولكنّ الروح يُحيي" (2كو3: 6) "
الأقباط متحدون - مفهوم الوحي في المسيحيّة (copts-united.com)
- ليتنا نتعاون مع الأوروبيين بجهد لنوفّق بين مفهوم الدين لدينا ولديهم، ونمهد الطريق الى وحدة الكنيسة الجامعة. فالمفهوم العام للدين عندنا هو إيمان ومعجزات وتفسيرات وتعليمات دقيقة، وصلاة وتسبيحات وصوم وطقوس وليتورجيات فى إيطار كنسى مُحكم. وللحق يجب أن نعترف بأن هذا المفهوم الكلاسيكى للدين لا تُمارسه الغالبية العظمى من أجيالنا الجديدة وخاصة المولودة فى المهجر.
أما مفهوم السلوك المسيحى عند معظم الأوربيين فهو يُمارس خارج الإيطار الكنسى: مساعدة الفقير والغريب والمُسن والمُعاق والمريض والمُدمن والمشرّد والمنبوذ، والإلتزام بالصدق فى الكلام والأمانة فى العمل، وعدم الرشوة والغش فى الإمتحانات، وعدم التهرّب من دفع الضرائب، وتطبيق القوانين الرسمية، وقيادة السيارة بطريقة إنسانية تُراعى المُشاة وسائقى السيارات الأخرى، والدفاع عن الحرية الفكرية والدينية، وتحرير المرأة من التمييز الذكورى ضدها، وحماية البيئة الطبيعية ضد خطر تغيير المناخ والتلوث والدمار.
فبينما مفهومنا الدينى التقليدى نابع من الحياة النُسكية والطقس والتقليد الكنسى، فان مفهومهم الدينى نابع من خدمة المجتمع والتمسك بقيم مجتمعية أخلاقية مثل التعامل مع ألآخرين بأدب، والإمانة فى العمل، ومساعدة المهاجرين، ومكافحة الفقر فى الدول الفقيرة، وحفظ السلام فى العالم، والحفاظ على البيئة الطبيعية ومناخ الكرة الأرضية باسرها.
هذا المفهوم الدينى الألمانى نلمسه بوضوح فى العظة القصيرة التى تلقيها كاهنة او كاهن فى البرنامج الاول للتلفزيون الالمانى كل يوم سبت مساءً تحت إسم "كلمة الأحد "
فمثلا كانت العظة يوم 29/10/2022 بعنوان "صلّوا كل حين ولا تملّوا" (لو: 18،1). ولم يذكر الكاهن هذه الآية إلاّ فى آخر العظة، التى كانت عن بيت تابع لهيئة كاريتاسلخدمة المشرّدين والمدمنين. ويقوم بالخدمة فى هذا البيت بعض المتطوعين الذين يأتون يوميا بلا ملل ولكن بصبرومحبة فائضةليخدمواهذه الفئة المنبوذة إجتماعيا ويجلبوا لهم الراحة والسعادة. وقال الكاهن فى ختام العظة أن هذه الخدمة تساوى الصلاة التى بلا ملل التى تكلم عنها يسوع.
ومما يُؤكد حاجتنا الماسة إلى هذا "التديّن السلوكى" هو،على سبيل المثال،إنتشار الفساد فى التعليم فى مصر، فمعظم المدرّسين لايدرّسون بأمانة فى المدارس الحكومية، بل يهتمون بالكسب الجشع من الدروس الخصوصية والسناتر. وهنا لا يصح الإدّعاء بأن المدرسين الأقباط لا يشتركون فى هذا السلوك البعيد تماما عن المسيحية. والبمثلفأن معظم الأطباء فى المستشفيات الحكومية المصرية لا يعملون بالتزام ويتغيبون عن العمل كثيرا، ويستغلّون المرضى فى عياداتهم الخاصة.
بعبارة إخرى فإنه يجب علينا أن نتعلّم من الألمان "التديّن السلوكى"، وفى المقابل نعلمهم "التدين النُسكى" بكل ما يحتويه من إيمان بالثالوث الأقدس وصلوات ليتورجية وتسابيح وصيامات وطقوس دينية.
ملحوظة: هذه آراء على قدر كبير من التعميم، والمعروف أن أى تعميم ينطوى على أخطاء وثغرات. ومع ذلك فإن للنظرة العامة الشاملة فوائد جمّة، لا غنى عنها لفهم المشكلة ككل.