عاطف بشاي
احتفلت الدورة الثامنة والثلاثون من مهرجان الإسكندرية العتيد بالنجم محمود حميدة، وتم تكريمه بإسناد دورة المهرجان إلى اسمه وإصدار كتاب عن مسيرته الإبداعية بعنوان «محمود حميدة نجم الفن السابع»، قمت بتأليفه، وهو بلا شك إحدى الدرر فى أحداق السينما المصرية، فهو يشع وهجًا براقًا فى الأداء والتعبير والتقمص.. يستدعى كل مهارات الإبداع وعصارة ثقافته العريضة وكل تعبيرات وجهه الفيّاض بالمشاعر العميقة والأحاسيس الفوّارة بالمعانى والدلالات والأبعاد والرموز والإيحاءات ويصوغها فى كل مشهد وفى كل لقطة وابتسامة ولمسة ولمحة نظرة وإطراقة على الشاشة.
وفى مواجهته كاميرا تحبه وتشتاق إليه كثيرًا حينما يغيب عنها.. إنه يستحضر كل مخزون الذكريات وكل بواطن الوعى.. وكل رسائل العقل وكوامن الوجدان ليقدم أعمالًا حصادها مشرف سوف تظل رابضة فى ذاكرة السينما المصرية على مدار سنوات العطاء الممتدة.. يتمتع بقامة سامقة ممشوقة وعينين ثاقبتين مضيئتين بألق الإبداع.. وسيم المُحَيّا والملامح الجذابة الآسرة.. ذو أنف شامخ أشَمّ.. بَهِىّ الطلة والحضور.. يسير منتصبًا كزهرة «اللوتس»، التى لا تنحنى، مترفعًا بوهج الكبرياء، يحتضن ديوانًا من الشعر لـ«فؤاد حداد».. تخاله طاووسًا متعاليًا ومفتونًا بذات متورمة، لكن انطباعك المتعجل يكشف خطأ تصورك عنه.. فما إن يأنس إليك حتى يتبدّى لك وجهه الحقيقى وروحه حلوة الشمائل، التى تحمل فيضًا من الألفة والود والبساطة.. ثمة عزة نفس تزينها واعتداد بالموهبة الطاغية تشملها.
ظهر محمود حميدة فى وقت عصيب كان اختراق دائرة النجوم فيه أمرًا عسيرًا.. فالساحة محتشدة بنجوم ساطعة «محمود ياسين» و«عادل إمام» و«حسين فهمى» و«نور الشريف» و«محمود عبدالعزيز» و«أحمد زكى».. وكانت بدايته تليفزيونية حينما أسند إليه المخرج «أحمد خضر» دور البطولة فى مسلسل تليفزيونى من تأليف محمد جلال عبدالقوى «حارة الشرفا»، ثم تلاه بمسلسل «الوسية»، فكانت بداية شهرته كممثل يلفت الأنظار.. وبدأت رحلة انطلاقه.. وكانت أول محطة له فى السينما قيامه بالبطولة الثانية أمام.. «أحمد زكى» فى فيلم «الإمبراطور» ١٩٩٠ إخراج «طارق العريان».
وبدَت السينما كأنها تنتظره فيصعد إليها كالصاروخ ويصبح القاسم المشترك الأعظم فى أفلام بداية التسعينيات، ولعل من أنصع صفحات تجربة محمود حميدة السينمائية وأخصبها فى مشواره الفنى حماسه واندفاعه الخلاق لمساندة جيل من المخرجين السينمائيين الرائعين، الذين شكّلوا ملامح سينما مصرية جديدة بحيث نشعر أنه ينتمى إليهم.. يشاركهم فى رؤيتهم الفنية ويتسق معهم فى جموح أحلامهم وعذابات معاناتهم وطموحات خيالهم وجسارتهم فى طرح أفكارهم وتجاوز كل ما هو تقليدى ومألوف وسائد إلى أشكال فنية مختلفة ومغايرة أكثر تطورًا وشمولًا ممثلًا فى «محمد خان» و«خيرى بشارة» و«رأفت الميهى».
وهو أيضًا يشارك مشاركة رائعة للجيل اللاحق المعاصر المتمرد الذى يقود اتجاهات السينما البديلة والتغريب والفانتازيا والتجريد والكوميديا السوداء، وتجلّت هذه السينما فى أميز صورها بالتعاون مع المخرج أسامة فوزى فى ثلاثة أفلام من أهم أفلام تلك المرحلة، وتُعتبر أيضًا من أهم الأفلام التى قام «حميدة» ببطولتها، وهى «جنة الشياطين» ١٩٩١، أول أفلام المخرج، التى غامر «حميدة» بإنتاجها، ولولاه لما كانت قد رأت النور.
و«عفاريت الأسفلت» ١٩٩٦، و«بحب السيما» ٢٠٠٠، والمخرجة «كاملة أبوذكرى» فى فيلمى «ملك وكتابة» و«يوم للستات»، والمخرج «أحمد غانم» فى فيلم «تلك الأيام» ٢٠٠٩، و«عاطف حتاتة» فى «الأبواب المغلقة»، وخالد مرعى فى «آسف للإزعاج» ٢٠٠٧، وخالد يوسف فى «دكان شحاتة»، ويسرى نصرالله فى «احكى يا شهرزاد» ٢٠٠٩ وغيرهم.
والحقيقة التى تفرض نفسها فى مسيرة هذا الفنان وتجعل منه استثناء فريدًا أنه ليس مجرد ممثل قدم للسينما المصرية العديد من الأدوار المميزة، بل إنه يمثل بمفرده مؤسسة سينمائية رائعة تسير على قدمين، فقد استطاع فى مشواره المرهق المثير والوثاب والطموح وعصاميته التى اعتمد فيها على نفسه دون أن يدعمه أحد أن يؤسس لكيان شمولى يجمع بين التمثيل والإنتاج والتوزيع فى بوتقة واحدة بدأت بالدراسة الأكاديمية.
حيث سافر إلى «أمريكا» فى سنوات متتالية ليتعلم فن التمثيل وعاد لتطبيقه عمليًّا، فقام بإنشاء «استوديو الممثل»، مستعينًا بأهم المتخصصين من الأساتذة والمحاضرين بهدف أن يكون مركزًا لتدريب المواهب الشابة إيمانًا منه بضرورة امتزاج الموهبة والمنهج العلمى ليكون ذلك تمويلًا لهذه الصناعة بكوادر فنية لمسايرة التطور السريع والهائل لهذه الصناعة فى أوروبا وأمريكا ودول العالم المختلفة.
وفى عام 1997 قام بتأسيس وإصدار مجلة «الفن السابع»، وهى أول مجلة سينمائية متخصصة فى صناعة السينما فى الشرق الأوسط، حيث كانت الأعمال الفنية سواء المحلية أو العالمية تأتى على صفحاتها من مختلف زواياها لتصل بعد ذلك إلى المتخصصين والقائمين على هذه الصناعة وكذلك جمهور القراء بصورة صادقة.. لذلك اعتبرها الدارسون لهذا النوع من الفن مرجعًا تاريخيًّا لمختلف الأعمال سواء كانت محلية أو عالمية.
نقلا عن المصرى اليوم