عادل نعمان

حتى لو أدار أحدهما وجهه أو ظهره للآخر، أو بدا للناس خلاف أو عناد أو تنابذ أو نقار بينهما، إلا أن الوصال يظل موصولًا، والحبل مازال ممدودًا، والعهد يستمر قائمًا، والحلف ما انفك ماثلًا، والقسم والميثاق متواصل وغليظ.. كانوا ومازالوا.. فلا حب ولا كره يجمع الأنداد إلا المصالح والمنافع، وقد كان الطريق الذى يجمعهما منذ قرون يجعل المسير متوازنًا وفى اتجاه واحد، ولا يسع لزحام طرف ثالث، ولا يُسمح فيه بالتباطؤ أو الدوران، ولا يقدم أحد فيهما قدمًا أو يؤخرها، ولا ينظر أو يعاتب أحدهما الآخر، هذا ما أرساه وأسسه وأنشأه رجال السياسة منذ القدم، ورسخه وأخرج بناءه فى تاريخنا الإسلامى على السطح رجال الدولة الأموية «معاوية بن أبى سفيان»، هكذا قال رجالات الثقافة والتنوير «وأعتذر لهم عن تحديد الزمان»، فإن التاريخ الإسلامى كله هو امتداد لما كان قائمًا من هذا التحالف الدينى السياسى حتى الآن دون فواصل ومن أوائل الأوائل.

 
وهذا الفراق لن يكون طوعًا بل كرهًا، وليس برضا رجال الدين بل بتضييق الشعوب والمثقفين عليهم، «ولو كان لرجال السياسة دور لاختصرنا الطريق» بيدهم الأمر والنهى والفرض والتكليف، ورجال الدين غالبًا ما يُطيعون ويقبلون، يهرولون فى الذهاب ويتباطأون فى العودة، ولما يُجبرون ويُقهرون يسارعون فى الخروج مخافة الحصر والحساب والعد والمراجعة. وحكايات الخلفاء عن استمالة رجال الدين «بالحيل الشرعية» أو «بالتأصيل الشرعى» لمخالفاتهم وتجاوزاتهم تملأ صحائفهم وتزكم الأنوف، ولم يكن لهؤلاء الخلفاء والأمراء من سبيل على العباد إلا هذه الحيل الشرعية، وهذا التأصيل الفقهى لهؤلاء المشايخ منذ اليوم الأول لتأديب الخارجين والمعارضين لحكمهم تحت فتاوى قتل المرتد وتارك الصلاة، وتهم الزندقة ومخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولم يكن للأمويين من فضل إلا فى توثيق هذا العهد بعد أن كان عهدًا عرفيًا.
 
وما اقتنع أحد منهم أنها نبوة بل ملك عضوض، وكان حديث أبى سفيان للعباس عم النبى: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا»، ورسالته إلى عثمان بن عفان حين تولى الخلافة: «لقد صارت إليك بعد تيم وعدى»، قبيلتى أبى بكر وعمر، «فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بنى أمية، فإنما هو الملك، فلا وحى ولا جنة ولا نار»، وهكذا أكمل معاوية الرسالة وصار ملكًا عضوضًا باركه المشايخ ومكنوا يزيد من الحكم حين أفتوا: «يجوز للخليفة أن يعهد بالخلافة لابنه أو ابن أخيه إذا توافرت فيه شروط الخلافة».
 
أما العهد العباسى فقد قام على كره العرب وتعقبهم والخلاص منهم، وهى فى الأصل ثورة الموالى بتحريض من آل العباس على ملك بنى أمية، وقد كان أبومسلم الخراسانى لا يدع فى خراسان أحدًا من العرب إلا وقتله، حتى استأصلوا شأفة بنى أمية، وعاد العرب إلى الصحراء لرعى الأغنام، وقُتل على يديه خمسمائة ألف رجل من العرب أو يزيد، وأصّل الفقهاء للعباسيين جريمتهم بفتوى (ثورة كبرى فى سبيل إعادة الدين إلى أصله وإحياء سنة رسول الله)، وكان للأحاديث الموضوعة عن النبى (الوضاعون على أبواب الخلفاء العباسيين) الفضل فى تثبيت حكمهم.
 
أما العثمانيون فقد اعتمد السلطان محمد الخامس «قانون نامة» الذى يجيز للسلطان التخلص من أشقائه حتى لا يُنازعوه الحكم، وكان عرفًا سائدًا وملازمًا للخلافة العثمانية، أن يقتل الخليفة أو السلطان أشقاءه، وكان أكثرهم وحشية السلطان «محمد الثالث» الذى قتل تسعة عشر أخًا شقيقًا وغير شقيق حتى الرضع منهم، ومن سلاطين آل عثمان من سنّ منهم سُنة «أرحم من القتل» حبس الأشقاء فى أقفاص من حديد لا يخرجون منها إلا لقبورهم، وقد بارك المشايخ هذا الصنيع الشنيع، وأجازوا للخليفة أو للسلطان التخلص من الأشقاء مخافة الفتنة، «الفتنة أشد من القتل ونحن نأخذ أهون الضررين»، ولم يكن أمر المسلمين فى عهد كل هؤلاء الخلفاء جميعًا شورى بينهم منذ أوائل الأوائل كما زعموا، بل بالغلبة والقوة والتصفية والمطاردة والسيف، هذا مثال واحد من كل عهد وخلافة، ولو تركنا للقلم مدادًا ما جف من طول وعرض ما نكتب عن هذا التواطؤ والتزييف بين رجال السياسة ورجال الدين على حساب الدين وظلم خلق الله.
 
كنا ومازلنا نأمل أن نفض هذا العهد والميثاق، ونفك هذا الحلف، ونتحلل من هذا اليمين وهذا القسم، ونتبرأ من هذه الوصاية وهذا الوصال، فما مُلئت الأوطان ظلمًا وجورًا، وما تمكنت الديكتاتورية السياسية والفاشية الدينية من الأوطان، وما عمت الفوضى والفساد، وما تفشى الجهل والخرافات والأساطير وخربت الذمم وخاصم الناس العقل والعلم، وعم الكسل والتنبلة أرجاء البلاد إلا بهذا التلاحم والتواطؤ بين رجال الدين ورجال السياسة.
 
الأمل معقود على إرادة وطموحات الشعوب، وجهد المثقفين والتنويريين ومساندة الدول التى تسعى إلى تقدم شعوبها وخروجها الحتمى من براثن الجهل والتخلف والعته، قادم يومًا بالثقافة والتعليم وإرادة الشعوب ومثقفيها ورجال السياسة المخلصين.. لا تيأسوا «الدولة المدنية هى الحل».
نقلا المصرى اليوم