لفتنى بلدياتى الصديق «حسين منصور»، بـ«بوست» لطيف على «فيسبوك»، أعادنى إلى أيام خلَت، ذكريات عبرت، كانت أيام هنيّة، والدنيا براح، والبال رايق، الناس طيبة، تتشوق للمولد النبوى، وتتجهز بأطايب الطعام والحلوى.
 
يقول «حسين»: «زمان فى مولد النبى، عليه الصلاة والسلام، بلدنا (منوف) كانت بتبقى (لاس ڤيجاس) مصغرة: ملاهى، ومسارح، وسيرك الحلو، ودايرة بريللو، قمار، ونيشان، غنا ورقص، غير طقوس الصوفية، وخليفة كل طريقة على حصان، طبل بلدى للخيل، فرق مزيكا نحاس، برجاس، وسبق خيل، ومبارزة على ضهر الخيل، تفكّرك بأيام (داحس والغبراء)، منشدين كبار، ومواكب ذكر، بيع، وشرا، وجواز، حلاوة، عروسة بطرحة، وحصان بسيف، طبيخ وخبيز، كفتة رز ومحشى، نذور وعزايم، ختمات وتسابيح، مناديل بنات ملونة بتزين جمل العيلة، نقرزان نحاس وطبل، قعدات فى الميادين.. وفسح (منوف) كانت لها فرادة فى طريقة الاحتفال بالمولد، (منوف) هى كتاب الموالدية الكبير».
 
وأزيد «حسين» من الذكريات حكيًا، كان سيرك عاكف بدائيًّا: مسرح من عروق الخشب يتحمل بالكاد اهتزازات كعب الغزال المتحنى بدم الغزال، على شدو بلبل الأغنية الشعبية «محرم فؤاد»، كانت تتمايل فتميل معها الرؤوس، لا أعرف لماذا كان الفلاحون من الجوار يلقون بالطواقى الصوف تحت أقدام الغزال.
 
يقف على باب السيرك عجوز، نجا من زمن الفتوات بمعجزة، يبتاع بضاعته.. و«الحق كرسى» يقولها متكسرًا بالحروف، يُنغِّمها تنغيمًا، واللبيب بالإشارة يفهم.
 
كان سيرك «البطل» أسطوانيًّا، صوت الموتوسيكل يثير ضجيجًا يُضخِّمه الفراغ فى دورات بهلوانية متتابعة من أسفل لأعلى وبالعكس مع توقفات بهلوانية فى الهواء، الموتوسيكل يطير فى الهواء، تُوفى البطل «بريللو» هكذا اسمه، إثر حادث أليم، وخلفه «أحمد الملك»، الملك كان يطير بالدراجة.. وكان بريللو يطير بالموتوسيكل، شاهدت نموذجًا إلكترونيًّا لبريللو فى سباقات السيارات الافتراضية على الإنترنت.
 
كان سيرك الحلو درة المولد، فقرات مثيرة، الساحر الذى يرتدى «هندى» يُخرج من البيضة كتكوتًا فصيحًا يصيح، استولت الدهشة على فلاح طيب جاء من آخر المدينة يسعى، الأسد يقفز من داخل حلقة النار، الهلع يخلع قلوب الشنبات، تحتضن محاسن الأسد، يستكين وسط تصفيق جنونى.
 
«الرجبة» تمر بالحوارى صاخبة، والخلفاء يتقابلون، كل فى طريق، موسيقات نحاسية، وصوت جهورى يفج من وراء الأبواب: «اذكر الحبيب قلبك يطيب».. وتلاوة وترتيل وذبح وفتة ولحم وأوراد وأذكار والشيخ
 
«شرف» يغنى للحبيب: «أنا نفسى أزورك يا نبى وأقول مدد»، جلجلة شفاهية غير مكتوبة فى حب الهادى، أبوفاطمة، ينطقونها فى المنوفية بالنون.
 
كل هذا الجمال، كل هذه العفوية الطهورية فى حب خير الأنام، بنحبه على طريقتنا، على مذهبنا، مذهب المصريين، بنحبه كما لم نحب غيره، بنحبه حبًّا يملأ الفضاء بين السموات والأرض، وبنحب ريحته وريحة ريحته والعترة وآل البيت، ومدد على طول المدد، وبناكل حلوى، بنحلى بقنا لأنه كان حلو المعشر.
 
كانت جدتى تحفظ فيه أشعارًا، كان فى قلبها ساكن، وفى روحها، كانت بتعشق طه صبابة.. آه يا طه يا زين يا زين.
 
وبعدها، يخرُجُ فى آخرِ الزَّمانِ قومٌ أحداثُ الأسنانِ سُفَهاءُ الأحلامِ، يُحَرِّمُون الاحتفال بمولد الحبيب، حتى مولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، سقط فى دائرة الحرام والحلال، الدائرة الجهنمية اتسعت، يُحَرِّمُون الاحتفال، يزعمون أن المولد بدعة محدثة فى الدين، لا يجوز فعلها ولا إقرارها ولا الدعوة إليها، بل يجب إنكارها والتحذير منها..!!.
نقلا عن المصري اليوم