مفيد فوزي
فى مناسبة ذكرى محمد حسنين هيكل، كنت مدعوًّا ضمن محبيه ومريديه. واخترت مقعدًا مريحًا، وقالت لى السيدة الفاضلة، حرم الأستاذ هدايت تيمور: هذا المقعد كان مقعد هيكل، كلما جاء موعد شاى العصر.
■
سرحت طويلًا فى تلك اللحظة التى أتت بى إلى بيت هيكل، وأبحرت فى أيامى التى جعلتنى أتعرف على هذا «الأستاذ»، بل أفتتن به نموذجًا للجورنالجى، على حد تعبيره، حين يتحدث عن نفسه.
■
أيام الصبا اخترعت صحيفة حائط بأقلام ملونة، وكنت أعلقها فى مدخل العمارة ليراها السكان، وانفردت ببعض الأخبار، وحصدت إعجابًا جعلنى منتشيًا وتصورت نفسى فكرى أباظة أو محمد التابعى، الأسماء التى عرفناها!.
■
ذاع صيتى فى الحى الذى كنا نسكن فيه «حى مقبل»، وشعرت بأن مستقبلى يتحدد أمامى، وكنت أشترى بمصروفى جريدة الأهرام وأعكف على قراءتها حتى لو لم أفهم ما جاء فى الأعمدة. لكنى، كنت أحافظ على الجورنال، وأرفض أن يُستخدم فى شىء آخر، تربيت على احترام ورق الصحف ومازلت!.
■
فى المدرسة الثانوية، علقت جريدتى بإذن من ناظر المدرسة، الذى كان مبهورًا بموهبتى المبكرة، لكنه رفض نشر مقال عن مدرس اللغة الفرنسية وطريقة عقابه المخطئ، فوضع ورقة سوداء التصقت بالمقال، وهكذا عرفت الرقابة لأول مرة، لكن فضول الطلبة كان أكبر، فسألونى: ماذا أخفى الناظر؟.
■
ثمة شعور بالسعادة انتابنى، هل أنا فى الطريق إلى قدَرى وأكون واحدًا من أبناء هذه المهنة، الصحافة. من يدرى؟!.
■
فى الجامعة تبلورت أفكارى وصرت أنشر خواطر زملائى، ومنهم محمد حقى، الذى فاز فى حياته العملية بمنصب فى الخارجية المصرية، وكانت تشرف على المجلة الأميرة دينا، التى كانت الملكة دينا، فيما بعد كبر حجم الجريدة وكبرت أحلامى!.
■
ذات مساء، كنت أتسكع فى وسط البلد عند سور الأزبكية وقادتنى قدماى إليه، ووقفت أتأمل بيع الكتب، فيما بعد عرفت أن سور الأزبكية هو المسؤول عن ثقافة أسماء كبيرة لأن هناك كنوزًا تُباع، وعرف المثقفون طريقها. تريضت قليلًا عند بائعى الكتب حتى توقفت عند كتاب جديد الملمس، فالتقطت الكتاب وقلبت الصفحات، اسم الكتاب: إيران فوق بركان، واسم الكاتب محمد حسنين هيكل، فرحت بالكتاب وكنت أسمع عن الكاتب لأول مرة، وظنى أنه يكتب تحقيقات فى آخر ساعة.
■
لم أنَمْ تلك الليلة، فقد قرأت الكتاب، بل قل التهمته وشعرت بمتعة خيالية، فقد شدنى بأسلوبه ولا أدرى سر السحر فى هذا الأسلوب؟، هل هى الصياغة؟، هل هى الكلمات الموظفة للتعبير؟، هل هو شغف الكاتب؟، هل هو تناول الكاتب للحدث؟. لست أدرى ما الذى جذبنى فى أسلوب هيكل، لكنى أدمنته منذ اللحظة الأولى. وجلست أحاول مقلدًا صياغة بعض عباراته!.
■
كنت أتدرب وقتئذ فى أخبار اليوم، وكنت فقط أكتب أخبارًا فى آخر ساعة، وكنت أعمل تحت مظلة صلاح جلال، وتمنيت أن أعمل تحت مظلة صلاح هلال، فهو الأقرب إلى قلب هيكل. ولم أعرف صلاح هلال، كاتب التحقيقات، عن قرب إلا عندما قابلته فى دولة الإمارات العربية، حين كان يسهم بجهد صحفى فى مجلات الخليج بكُتاب عرب، منهم أسماء مصرية.
كنت أجلس بجوار سلامة موسى، أحد كبار المفكرين العظام، وكنت ألوذ بالصمت إذا تكلم، فهو حكيم، لكنى كنت أدلف إلى مكتبة أخبار اليوم لأفتش عن تحقيقات هيكل فى آخر ساعة. وكنا ثلاثة: محمد وجدى قنديل وصلاح منتصر وأنا. كلنا أحببنا هيكل، وكل منّا عبر بأسلوبه، أما أنا، فكنت المفتون، كنت أقضى الساعات فى قراءة تحقيقات هيكل. وكنت أزداد حبًّا واشتياقًا لرؤيته!.
■
سمعت همهمات فى صالون حلاقة فى أخبار اليوم، نعم، كان فى أخبار اليوم صالون حلاقة. سمعت أن «هيكل جاى»، بمعنى أن كبار الأسماء سوف يستقبلون الأستاذ هيكل، وقد عاد من كوريا، حيث كان محررًا عسكريًّا فى هذه المهمة. وقفت بجوار عظماء أخبار اليوم، نكرة، لا يعرفنى أحد إلا الكبير سلامة موسى واكتفيت بذلك. وجاء هيكل وكان المشهد أمام دار أخبار اليوم مثيرًا، ووسط الزحام صافحته وقدمت له اسمى، فلم يأبه للاسم، لكنى شعرت بقمة السعادة، ثم تتبعته إلى غرفته ودخلت وراءه!!.
«للحكاية بقية»
نقلا عن المصرى اليوم