محمود العلايلي
لا يمكن أن تمر الزيارة التى قمت بها لمدينة الأقصر خلال الأسبوع الماضى مرورًا عابرًا، فبينما كنت ذاهبًا لحضور مناسبة خاصة إلا أننى قررت ألا تمر الزيارة دون أن أشاهد بعض الأماكن التى زرتها وبعضًا آخر من الأماكن التى لم أزرها خلال رحلتى الأولى للمدينة العظيمة «طيبة»، ومع أن زيارتى الأولى كانت منذ حوالى 42 عامًا مضت، إلا أننى شعرت أنها لم تكن ببعد كل هذه السنين، ربما لأننى بحكم اهتمامى بالمصريات لم أنس الأماكن التى زرتها بالفعل, كما أننى أحفظ مقاطع كاملة من الحوار الرائع لعرض الصوت والضوء بالكرنك والذى كنت اقتنيت الأسطوانة الخاصة به- نعم الأسطوانة- وكنت أسمعها مستمتعًا بأداء الفنانين للنص البديع الذى عبر عن قدسية المكان بشاعرية فائقة، والسبب الآخر هو أننى على مدى السنين الاثنتين والأربعين كنت أخطط سنويًّا للذهاب إلى الأقصر ولكن لم يشأ الحظ أن يتجاوب مع خططى ولا مرة، وإن سمحت لى الظروف بالصدفة أن أفعلها مؤخرًا.
إن الحديث بتباسط عن اهتمام المصريين القدماء بما بعد الموت على حساب الحياة عكس الواقع من الأساس، لأن تلك الأقبية والدروب المحفورة فى الصخر والمنقوشة بأنامل وروح الصانع الفنان من إنجازات العلوم الدنيوية، كما أننا إذا فحصنا تلك المنازل الأخروية التى كانت محجوبة عن الأعين وبعيدة عن متناول الأيدى، لشهدنا دون شك على عظمة الحياة الدنيا لهؤلاء الناس التى باحت منازل آخرتهم بأسرار الحياة والموت بعد أن ظلت آمنة لم تمس إلى أن بدأ يعثر عليها الفضوليون وينتهكها اللصوص.
إن الدقة وراء تلك النقوش المفعمة بالحركة والحياة، وطريقة بناء المعابد وشق الصخور واستخدام النسب الهندسية وعلوم الفلك والجغرافيا بمعرفة الاتجاهات ودراسة فصول السنة والتنبؤ الدقيق بالجو لا يمكن إلا أن يكون خلفها علم متأصل وذلك هو ما جعل تلك الحضارة صامدة منذ بدء عصر الأسرات على مدى أكثر من عشرين قرنًا متعاقبة.
وكان ذلك العلم فى تلك الأيام لا يقتصر على الأمور المقدسة فقط بل كان يتجاوز ذلك إلى علوم الرى والزراعة حتى كانت الحكومة المركزية فى منف أو فى طيبة أو تل العمارنة تعرف بالتحديد مساحة الأرض المزروعة وماذا تنتج وفى أى موسم تحصد إنتاجها، كما مهدت لهم علوم الحساب والإدارة كيفية حساب الضرائب وطريقة جمعها، أما كيفية تخزين الغلال وحفظ الأطعمة فكانت علمًا دنيويًّا آخر يضاف إلى ما فات من علوم بالإضافة إلى علوم الطب والكيمياء وتصنيع الدواء والقيام بالعمليات الجراحية للدرجة التى مكنتهم من تصنيع بعض الاستعاضات مثل الأسنان والأصابع.
إن الهدف من السرد ليس استعراض العلوم بقدر كشف الفلسفة خلف تلك العلوم، حيث لم يقتصر الفكر على تطبيق العلوم وإنما على فلسفة امتلاك العلم والعمل على تطويره، لأن مجتمع العلم لا يمكنه التجزؤ، إذ إن علوم الهندسة لا يمكن أن تفصل عن الحساب والرياضيات والمنطق, كما أن علوم الزراعة لا يمكن أن تفصل عن الرى وعلم الوراثة، وعلوم التشوين وحفظ الطعام لا يمكن فصلها عن الطب والصيدلة، وكل هذه العلوم لا يمكن فصلها عن علوم الإدارة والسياسة وارتباط الاثنين شرطيًّا بالاقتصاد والعلوم العسكرية فى دوائر لا تنتهى من الارتباطات التى لا يمكن فصل واحدة عن الأخرى.
إن هذه العلوم قد اختلفت وتطورت بحكم الزمن بلا شك، ولكن الذى لم يتغير هو الفلسفة الكامنة خلفها وهى امتلاك أصل العلم وأدواته، وهى تختلف تمام الاختلاف عن نقل العلوم، لأن النقل يفتقد الترابط بين العلوم، وبالتالى لا يبنى مجتمعًا علميًّا لديه القدرة الحقيقية على التقدم والخلود، كما كان لأجدادى فى طيبة «المدينة ذات المائة باب».
نقلا عن المصرى اليوم