بقلم عادل نعمان

 ونضطر دومًا لتكرار ما نقوله، فربما ينفع هذا التكرار ونستوعب مجريات التاريخ، ونربط الماضى والحاضر بالمستقبل برباط إنسانى واحد ممتد ومتجانس ومتوافق، ويصدق الناس أن إطلاق لفظ الجاهلية على تاريخ ما قبل الإسلام ليس منصفًا أو عادلًا، بل كل فترة تاريخية هى درجة من درجات السلم الإنسانى، بها يستكمل الناس الصعود، وبدونها ينهار بناء غير موصول أو مربوط، فكل درجة ترتقى إلى غيرها.

وتتواصل الأجيال والأفكار وتتعاقب وتتواتر، وتتوالى كموج البحر وتسلم الواحدة الأخرى، هكذا تتوالى الأجيال وتتتابع الأزمنة وتتغلغل وتلج فى يسر دون أن يعاير أهل زمان أزمنة أخرى، أو يصفها بالفحش أو بالقبح أو بالجهل، فما وصلت إليه واستقرت على بابه وأدركها إلا على أيديهم، وما رأى منها خيرًا إلا بشقائهم، وما ورث إلا بجدهم وكدهم، ولو كان الأجداد قد أنفقوها فى الفحش والقبح فقط لكنا نحن أول الوارثين.
 
ومازال السؤال قائمًا ولا مجيب، لماذا أبقى الإسلام على كثير من عادات «الجاهليية» وتقاليدهم وسننهم، واقتبس من طقوسهم وعباداتهم وشعائرهم (الجاهلية) ما يتقرب بها المؤمنون إلى الله فى صلواتهم وشعائرهم؟، ولماذا كانت الأحكام التى نزلت متوافقة مع ظروف الناس واحتياجاتهم فى زمن كان الكثير مما نزل وشُرع لهم غاية القصد والمنى والرضا؟، فلا تشريع أو نص نزل كان دخيلًا على الناس، أو شاقًا عليهم، أو مخالفًا لعاداتهم، أو يسبق عصرهم أو بدا غريبًا عنهم.
 
اقرأ المزيد...
ولم يكن الرضا على التشريع وقبول الحكم إلا لأنه كان متوافقًا ومتلازمًا مع احتياجات الناس وطموحاتهم ويطيب خاطرهم، وكان الله بكل شىء عليمًا وخبيرًا ومنصفًا، هكذا كان ويجب أن يكون، الوحى قائم ودائم بين السماء والأرض لا ينقطع، ومتواصل بالأنبياء والرسل وبدونهم طالما كان لله مخلوق واحد على الأرض، فكيف تنقطع رعاية الكفيل وعناية الوكيل؟
 
ولما كان قطع اليد اليمنى حد وعقوبة السارق، وكذلك قطع الأيدى والأرجل من خلاف والصلب فى الصحراء ولا يُسقى حتى الموت حد الحرابة لقاطع الطريق، عقوبتين معمولًا بهما قبل الإسلام، وحكمين رادعين مانعين، هذا للسرقة داخل القرى خلسة، والثانى خارجها اغتصابًا وسطوًا وقتلًا، قد شرعتهما أملاء «جمع ملأ» وجماعات وقبائل وأشراف متعاقبات فى سياق اجتماعى وتاريخى محدد، وسارت عليها الرعية وقوافل التجارة والحجيج، والكل قابل ومتوافق ويجددها ويشددها عند الضرورة حتى يأمن الناس من الشرور والجرائم، حتى جاء الإسلام وأبقى عليهما وأنزلهما منازل التنزيل الإلهى، وقرآنًا يتلى حتى نهاية الآجال، ولما كان هذا حكمًا بشريًا فى أصله ومنتجًا إنسانيًا فى منبته وأساسه، مقبولًا لزمن معين، لا تستقر عنده الأحداث والجرائم.
 
فإن الغالبية المسلمة رفعتهما ونسخت حكمهما وأبقت على تلاوتهما، ليس تمردًا على حكم الله، ولكن بوحى العقل، وهو من عند الله ومشيئته، وما كان رادعًا بالأمس ربما يكون هينًا ومتساهلًا فى الغد ويحتاج إلى شدة، وما يحسبه الناس رخوًا فى وقت قد يراه غيرهم صارمًا وعنيفًا ومنفرًا فى آخر، فينفض الناس من حوله إلا إذا لان وأرخى، العقوبات علاج ودواء، وابن سينا لو زارنا اليوم طبيبًا لشكرنا فضله وحمدنا صنيعه، لكن ليس فينا من يستسلم ويأمن بين يديه ليشخص له مرضًا أو يصف له علاجًا.
 
اقرأ أيضاً...
ونزيد بل ونكرر أن كافة قوانين الأحوال الشخصية لدينا مازالت أسيرة «الشريعة» على ضيق دوائرها وأسوارها، منها ما هو بادئ من القرآن، ومنها ما ينتهى عند اجتهاد وتفسير مشايخ ودعاة الفضائيات، دون فصل بين الإلهى والبشرى، وبين عمومية اللفظ وخصوصيته، والمطلق وسبب النزول، والمقاصد من الأحكام، وزمانه ومكانه، فى قانون منضبط محدد لا يقبل القسمة أو الخلاف فى الرأى، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فلا أمر مقطوع به، وهو على هوى من يحكم وعلى اتجاهه وثقافته.
 
الأديان والشرائع جاءت لراحة الإنسان وليس لشقائه، وحتى لا يرى المسلم فى حياة غيره لينًا ويسرًا وهوادة، وفى حياته صعوبة وعناءً فيمل ويقاسى ويكابد، بل ربما يتمرد ويعرض وينصرف، فلا يمكن أن يفصل القانون الوضعى فى دول كثيرة مسألة الطلاق مثلًا فى أيام معدودة محددًا الحقوق والواجبات فى حسم وعدل، وعندنا فى بلاد المسلمين فى سنوات طوال من المرمطة فى المحاكم، بل ومازلنا نحبو عند مطالبنا بإثبات الطلاق كما الزواج، وهو حق أصيل «إذا كان الزواج بعقد يثبت الطلاق بعقد، وإذا كان الزواج شفاهة يثبت الطلاق شفاهة»، وكذلك مسألة التبنى.
 
وقفنا عند رأى «التبنى حرام»، وليس الأمر كذلك دون تفسير منصف للآية، وامتلأت شوارعنا بأطفال مشردين دون حماية، ودون حل عادل نُغلّب فيه مصلحة الطفل أولًا وحسن تربيته، وكذلك تعدد الزوجات، وهذا الحق المطلق الذى أعطاه الفقهاء للرجل دون تحقيق مبدأ العدل، والذى من حق الحاكم أن يقيده للمصلحة الغالبة، نحن مازلنا أسرى هذا الصندوق الأسود الذى لابد من فك طلاسمه يومًا ما، وسوف لا نمل من التكرار «حتى تصبح الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم