القمّص يوحنا نصيف
+ قبل أحداث الصليب، قال الربّ يسوع كلمة عجيبة للجموع: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يو12: 32)، وعلّق عليها القدّيس يوحنا قائلاً: "قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ" (يو12: 33).. هذا معناه أنّ المسيح له المجد يشير في كلامه إلى أنّه عندما يُعلَّق على الصليب سيكون مركزًا جديدًا وقويًّا جدًّا للجاذبية، حتّى أنّه يجذب الجميع..!
+ لا شكّ أنّ للكرة الأرضيّة جاذبيّة، وأيضًا للشهوات الأرضيّة جاذبية أصعب.. للكرامة جاذبيّة، وللمال جاذبيّة، وللأشياء الجديدة جاذبيّة، ولملذّات الجسد جاذبيّة.. فالذين يقعون في مجالها تربطهم هذه الجاذبية وتقيِّد حرّيتهم.. ولكنّ المسيح جاء لكي يحرّرنا من كلّ هذه الرباطات، فعندما نقترب من صليبه وندخل في دائرة محبّته، فإنّنا نصير مأسورين في مجال جاذبيّة أقوى وأحلى جدًّا.. وهي بالفِعل قادرة أن تحرّرنا من كلّ قيود محبّة العالم وشهواته..!
+ اقترابنا من الصليب على ربوة الجلجثة هو رحلة صعود، ضدّ الجاذبية الأرضيّة.. لذلك فهي رحلة شاقّة إلى حدّ ما.. الانحدار سهل، بينما الصعود يبدو صعبًا، لأنّه يجد مقاومة من جاذبيّة الأرض.. لكنّنا في المُقابِل نجد أنّ جاذبيّة الصليب تساعدنا في طريق الصعود، بل تجعله طريقًا ممتعًا ومُفرِحًا.. إذ عندما نقترب من المسيح المصلوب، ونتلامس مع حبّه، نمتلئ بالقوّة، فيصبح الصعود سهلاً جدًّا..!
+ لقد أكّد ربّنا يسوع المسيح أنّه جاء من فوق، وقد نزل إلينا لكي يرفعنا معه إلى فوق.. "أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ" (يو8: 23).. فكيف ينتشلنا من الموت ويقيمنا معه، إلاّ بأن يرتفع بجسدنا على الصليب، مظهرًا حبّه للبشريّة، فاتحًا أحضانه لنا، ليصالحنا مع الآب..؟!
+ الحقيقة أنّ قوّة حُبّ المسيح المصلوب، لها سِحر وجاذبيّة تفوق كلّ إغراءات العالم وشهواته وآماله.. وقوّة جذب الصليب، تحرّر الإنسان من رباطات الخطيّة، وترفعه فوق شهوات الجسد، وتمنحه لذّة تفوق كلّ ملذات الدنيا..!
+ من هنا، إن كان الصليب يحرّرنا ويجتذبنا لمِلكيّة المسيح، فهذه الحريّة تجعل خطواتنا وراء المسيح قويّة وثابتة.. فنتبعه ونخدمه بخفّةٍ وفرح، ولا نسمح لأيّ قوّة في الوجود أن تسلبنا حرّيتنا التي نلناها في المسيح، أو تجعلنا نرتبك مرّة أخرى بنير العبوديّة (غل5: 1)..
+ أيضًا عندما يدخل الإنسان في دائرة جاذبيّة الصليب، سيجد نفسه تلقائيًّا يحاول اجتذاب الآخرين، ليتمتّعوا بنفس القوّة والسعادة والحريّة، هاتفًا مع عروس النشيد: "اجذبني وراءك فنجري" (نش1: 4).. مثل المغناطيس القوي، الذي عندما يجتذب إليه قطعة من الحديد، فإنّه يحوِّلها إلى مغناطيس، تجتذب بدورها قِطَعًا أخرى..!
+ وأخيرًا، فإنّ المسيح المصلوب لا ينبغي أن يظلّ فقط أيقونة مرسومة أمامنا من بعيد، بل لنقترب منه ونستظلّ تحت ستر جناحيه، ونتأمّل في احتماله وتواضعه وغفرانه لصالبيه، وفي آلامه الشافية المُحيية.. حتّى ينفذ حبّه إلى أعماق قلوبنا، ويتحوّل إلى قوّة جبّارة في حياتنا، نستخدمها لصلب الأهواء والشهوات.. وبهذا نتحرّر ونسمو ونتمجّد، ويتحقّق فينا قوله.. "إن حرّركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو8: 36).
كلّ عيد للصليب، وأنتم في ملء حُبّ الله،،