القمّص يوحنا نصيف
الرب يسوع كشف عن طبيعته مرّاتٍ كثيرةً، أنّه الله الظاهر في الجسد.. بالتعاليم والمعجزات وإظهار السلطان والقدرة الإلهيّة أمام الجميع.. ولكن الصليب وبعده القيامة كان الكشف الأوضح والأكمل والأعظم..!
هو قال عن الصليب في أحد أحاديثه مع اليهود: "متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أنّي أنا هو" (يو8: 28) وقبلها قال: "إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم" (يو8: 24).. ومعروفٌ أن تعبير "أنا هو" يعني الله (يَهْوَهْ = الكائن) وكان اليهود يعرفون أنّ هذا هو اسم الله..
إذن فالمسيح يعني أنّه بارتفاعه على الصليب ومواجهته للموت، وغلبته للموت بالقيامة سيكشف عن طبيعته الإلهيّة ورسالته الخلاصيّة..
بالفِعل كشف السيِّد المسيح بالصليب عن نفسه أنّه:
1- محب البشر.
2– الشفيع الكفّاري الوحيد.
3– مركز الحياة الجديد بالنسبة للإنسان.
أوّلاً: محب البشر..
هو يحب إلى المُنتهى.. يحبّ الإنسان لدرجة الموت لأجله.. إذ "ليس لأحد حُب أعظم من هذا أن يضع أحدٌ نفسه لأجل أحبّائه" (يو13:15).. فلم نرَ حُبًّا أعظم من هذا.. حبّ سَتَرَ كثرة خطايانا، واحتمل من أجلنا الهوان والعار والسَّبّ واللطم والعُري والجَلْد.. من أجل أن يحارب عَنّا معركتنا الفاصلة مع الموت، والتي كُنّا قد خسرنا كلّ جولاتها السّابقة.. أمّا هو فقد لبس جسدنا، ودخل ميدان المعركة الشرسة معنا و"من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مُستهينًا بالخِزي" (عب12: 2).. فصار العريس الحقيقي لنفوسنا، الذي اشترانا بدمه الثمين..!
إذا كان الحُب يُختَبَر بالألم، فإنّ آلام الصليب المهولة قد كشفت بالفِعل عن فيضان حُب الله الهائل للبشرية، والذي جرف وغطّى في طريقه كلّ خطايا العالم..
ثانيًا: الشفيع الكفّاري الوحيد..
لقد قيل عنه أنّه "ليس بأحدٍ غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخَر تحت السماء قد أُعطِيَ بين الناس به ينبغي أن نخلُص" (أع4: 12).. ففي حين أنّ الملائكة والقدِّيسين يشفعون فينا شفاعة توسُّليّة، فإنّ الربّ يسوع قد قدّم لنا شفاعةً كفّاريّة عندما "بذل نفسه فِدية عن الجميع" (1تي6:2).
وهو الذي فتح لنا الطريق مرّة أخرى إلى السماويّات، كما تُعَبِّر عن ذلك الآيات التالية:
+ "دخل يسوع كسابقٍ لأجلنا" (عب6: 20).
+ "قد صار يسوع ضامنًا لعهدٍ أفضل.. يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول، فمِن ثَمّ يقدر أن يخلِّص أيضًا إلى التّمام الذين يتقدّمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم" (عب7).
+ "المسيح وهو قد جاء رئيس كهنةٍ للخيرات العتيدة.. ليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه دخل مرّة واحدة إلى الأقداس، فوَجَدَ فداءً أبديًّا.. لأجل هذا هو وسيط عهد جديد، لكي يكون المدعوُّون –إذ صار موتٌ لفداءِ التعديات التي في العهد الأول- ينالون وعد الميراث الأبدي" (عب9: 11-15).
+ "المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيدٍ، أشباه الحقيقة، بل إلى السماء عينها، ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا.. ليُبطِل الخطيّة بذبيحة نفسه" (عب9: 24-26).
+ "لنا ثِقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع. طريقًا كرّسه لنا حديثًا حيًّا بالحجاب أي جسده" (عب10: 19).
+ "إن أخطأ أحدٌ فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفَّارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضًا" (1يو2: 1-2).
فبشفاعة المسيح الكفّاريّة صنع سلامًا بيننا وبين الله، وهدم بموته جدار الخطيّة الذي كان يفصلنا عن الله.. فصار "هو سلامنا الذي.. نقض حائط السياج المتوسِّط، أي العداوة" (أف2).
ومِن هنا فقد صار هو القائد الوحيد الذي يستطيع أن يدخل بنا إلى الأقداس، وتحقَّق فيه الوصف الذي كان قد عَرَّف به نفسه سابقًا بأنّه هو "الطريق"، "لايقدر أحدٌ أن يأتي إلى الآب إلاّ بي" (يو14: 6).
ثالثًا: مركز الحياة الجديد بالنسبة للإنسان..
لقد أصبح المسيح المصلوب مركزًا جاذِبًا جديدًا للبشر.. فهو قال: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو12: 32)..
لقد أتى المسيح ليصير رأسًا لخليقة جديدة.. فهو آدم الثاني عِوَض آدم الأول، ذاك الذي صار بالخطيّة مستَودعًا للموت.. فأراد الله أن يُنشئ بالمسيح مركزًا جديدًا يكون مُستودَعًا للحياة، كلّ مَن يتّجه إليه، ويدخل معه في عهدٍ بالمعموديّة، ويلتصق به، يدخل إلى دائرة الحياة مرّة أخرى..!
لقد صار ربنا يسوع الفادي –بالصليب- مركزًا للحياة مقابِل الموت السائد في العالم، ومركزًا للبركة مقابل اللعنة السائدة في الأرض.. فكلّ مَن ينتمي إليه، ويتّحِد به، يستردّ الحياة ويتمتّع بالبركة..!
هو يدعو كلّ إنسانٍ في العالم أن يترك المركز القديم، ويأتي إلى المركز الجديد.. يتجاوز الانتماء للمركز القديم (آدم الأول) الذي دبّ فيه الموت، ويُقبِل إلى المركز الجديد (آدم الثاني) الذي هو ينبوع الحياة الأبديّة.. "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا" (2كو5: 17).
لقد صار المسيح، ليس فقط فاديًا مات من أجلنا، ولكنه أصبح مركزًا لحياتنا الجديدة التي لا يغلبها الموت.. يقدِّم لنا جسده الحيّ لنتثبّت فيه كأعضاء من لحمه ومن عظامه (أف5: 30)، ويهبنا أن نتناوله طعامًا مُحييًا، نأكله فنحيا به (يو6: 57).. نثبت فيه وهو يثبت فينا (يو6، 14).. نتغذّى بروحه في داخلنا، فيتجلّى فينا، ويُمتِّعنا بمجد قيامته..!
القمّص يوحنا نصيف