جون جبرائيل
لماذا القدّاس؟ (١)
تصبح ممارسة سرّ الإفخارستيّا في أحيانٍ كثيرة طقوسًا غير مفهومة للكثيرين، و"مخصخَصة" (أي حكرًا على بعضٍ ممّن يظنّون أنفسهم مستحقّين)، لدرجةٍ تُفقد السرّ من معناه الأصليّ الذي قصده يسوع والذي عاشتْه الكنيسة الأولى. قد يساعد التأمّل وتمحيص الطريقة التي نمارس بها الإفخارستيّا اليوم أمرًا يساعدنا على أن نعيد اكتشاف المعنى الحقيقيّ للسرّ وإزالة القشور التي تحجب بهائه.
الإشكاليّة الحاليّة هي: هل تساهم الطقوس في فهم أفضل للإفخارستيّا أم أنّ الطقوس بألحانها وحركاتها وترتيبها تحجب أساس الاحتفال أي الإفخارستيّا؟
الطقوس مهمّة جدًّا، قد يجب الإبقاء على أغلبها، قد يجب تعديل بعضها، قد يجب حذف البعض منها أيضًا (كما حدث بعد المجمع الڤاتيكانيّ الثانيّ) إلّا أنّ المؤكّد أنّ حياة الإنسان ملأى بالطقوس، الإنسان كائن طقسيّ. تكمن المشكلة، حسبما نزعم، في غياب مفهوم الإفخارستيّا التاريخيّ، وبالتالي، يُفقَد معناها، وتصبح الطقوس بلا معنى.
الإفخارستيّا حدثٌ تاريخيّ
في الاحتفال الإفخارستيّ هناك الصلاة والحركات الطقسيّة واللحن والخبز والخمر. هذا أمرٌ واضح. لكن هل هذا كلّ شيء؟ الإفخارستيّا هي «اصنعوا هذا لذكري»، هي إذًا ذكرى لحدثٍ ماضٍ. إلّا أنّها وفقًا لإيمان الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة بل وأيضًا بعض الكنائس البروتستانتيّة هي ذكرى وحضورٌ. «اصنعوا هذا لذكري» أمرٌ من المسيح للتلاميذ وللكنيسة بعد ذلك. ما هذا الأمر؟ لنفهم أمرَ المسيح علينا العودة إلى الجذور.
الإفخارستيّة عشاء (وجبة) تذكرها الأناجيل الإزائيّة على أنّها عشاء فصحيّ. فالمسيح أوّلًا أسّس الإفخارستيّا أثناء العشاء الفصحيّ، على مائدة غير مكرّسة، وبلا أيّ لوحٍ مقدّس، في كؤوس وأطباقٍ غير مكرّسة، وبالطبع بلا أيّ صومٍ، وبخبزٍ غير مختمر كما تتطلّب الشريعة اليهوديّة في خبز فطير الفصح (الماتساه) (را خروج ١٢). هذا هو الخبز الذي على الأرجح استخدمه المسيح وفقًا للإزائيين، على الرغم من أنّ الكلمة اليونانيّة artos المستخدمة تعني الخبز بشكلٍ عامّ ولا تستثني منه بالطبع الخبز غير المختمر. بشكلٍ عامّ فالترجمة السبعينيّة ستستخدم بعد ذلك كلمة artos لتترجم بها الكلمة العبريّة الدالة على الخبز غير المختمر الواردة في لاويّين ٨:٢و ٢٦. على كلّ حالٍ، في الكنيسة ليس هناك مشكلة في استخدام أيّ أنواع الخبز. باختصارٍ، أسّس المسيح سرّ الإفخارستيّا في إطار وجبة عشاء فصح بشريّة عاديّة وفقًا للأناجيل الإزائيّة. ليس فيها أيّ بهرجة أو طقوس بخلاف طقوس العشاء الفصحيّ البسيطة والعميقة. يرى البعض أنّ الاحتفال الإفخارستيّ اليوم هو محاولة المسيحيّين للاحتفال بتناول وجبة من دون تناول وجبة! لا يعني ذلك بالضرورة أن نعيد الاحتفال بالإفخارستيّا على الطريقة الأولى أو القديمة ولكن على الأقلّ ينبغي التذكّر دائمًا أنّ الإفخارستيّا في الأساس هي وجبة.
العشاء الأخير في عشاء الفصح
إذا كانت الأناجيل الإزائيّة تسرد حدث تأسيس الإفخارستيّا أثناء تناول عشاء الفصح، فذلك يعني أيضًا أن الإفخارستيّا تتأسس في تلك الاستمراريَّة أو الاتمام الذي أحدثه المسيح للعهد القديم «لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ» (را متّى ٥: ١٧). يظن الكثيرون أن العهد القديم كان ناقصًا وبالتالي، كان على المسيح اتمامه، ويدعون لاستمراريّة تطبيق العهد القديم في حرفيّته، إلا أنّ ذلك بعيدٌ تمامًا عن القراءة المسيحيّة للعهد القديم. مثال لفهم ذلك، الطفل حينما يبلغ، هل نقض الطفل أم ما زال الطفل كائنًا فيه ولكنّه نضج ووصل إلى ملئه كرجل وامرأة؟ بهذه الطريقة يجب فهم العهد القديم. فالعشاء الفصحيّ يتحقّق ويصل إلى ملئه في العشاء الإفخارستيّ. من دون فهم العشاء الفصحيّ اليهوديّ ورمزيّته ومعناه نفقد جزءًا كبيرًا من فهم معنى الإفخارستيّا.
عشاء الاحتفال بالتحرير من العبوديّة
كان اليهود يجتمعون، ولم يزالوا، يوم عيد الفصح لتذكّر وللاحتفال بذكرى الخروج من مصر. ذكرى تحرير الله للإنسان من العبوديّة، ذكرى تحرير إلهٍ قويّ لشعبٍ أعزل من بين يديّ طاغية لا يعرف الله ولا يخافه. هذه الذكرى ليست خياليّة، بل هي ذكرى تاريخيّة اختبرها شعبٌ بطريقةٍ ما. لا نقصد بالتاريخيّة هنا قراءة سفر الخروج على أنّه كتاب تاريخ، بل المقصود أنّ اختبار الله في حياة شعب بني إسرائيل باعتباره إلهًا محرّرًا من الظلم والطغيان والعبوديّة هي خبرة تاريخيّة، متأصّلة في خبرتهم وكانت هي الخبرة المؤسِّسة لهم ليكونوا شعبًا تاريخيًّا ليهوه ويكون هو إلهًا لهم. لقد أصبحت هذه الخبرة مسألة هويّة لدى شعب بني إسرائيل. يتذكّر الشعب العبريّ جميعه معاناة أجدادهم والظلم الذي عانوه والآلام التي سحقتهم. ويحتفلون بانتصارهم وخروجهم من قبضة دولة عظمى. ذكرى التقاء الاستعباد الارضيّ الماديّ بتحرير الله الذي يمدّ يده داخل تاريخ البشر منحازًا للمستضعفين.
في هذا السياق، اختار يسوع المسيح تأسيس سرّ الإفخارستيّا. وبما أنا المسيح لم يؤسِّس الإفخارستيّا في أيّ سياقٍ آخر، فذلك معناه اختياره استمراريّة كلّ معاني العشاء الفصحيّ بما يحمله من ذكرى التحرّر، إلّا أنّ الإفخارستيّا هي أكبر وأشمل وأسمى من ذلك التحرّر السياسيّ والاقتصاديّ، وإن كانت لا تلغيه: «آباؤكم أكلوا المنّ في البرّيّة وماتوا» (يو ٦: ٤٩). الخلاص والتحرير يشملان واقع الإنسان الأرضيّ التاريخيّ ولكنهما لا يقفان عنده، ولا يلغيانه ولا يحوّلان الإنسان إلى كائن روحيّ خارج تاريخيه. فالخلاص بالمسيح حدث بواسطة التجسّد، حينمّا اتّخذ أقنوم الابن إنسانيّتنا. المسيحيّة تؤمن بإله لا يرفض أرضيّة الإنسان وتاريخانيّته بل يحبّ العالم وينصب خيمته وسط البشر. أعمال يهوه التحريريّة تستمرّ في ابنه يسوع المسيح، وبالتالي الاحتفال الإفخارستيّ ليس فقط احتفال بماضي وبذكرى أعمال يهوه بل هو أيضًا استحضار على ضوء الذكرى واحتفال في وسط الألم والظلم السياسيّ والاقتصاديّ بالتحرير الذي قام به يهوه نحو شعبه في أرض العبوديّة، وبالخلاص الذي جلبه المسيح إذ جعلنا الآب فيه إخوة وانتصر على الموت والشرّ والعنف. في خضم الشرّ سياسيًّا كان أو اقتصاديًّا أو دينيًّا يصبح الاحتفال الإفخارستيّ ذكرى حاضرة هنا والآن بأنّ قوى الشرّ والطغيان حتمًا ستنتهي، بأنّنا مغفورٌ لنا وأنّنا مشتركون في ملكوته منذ الآن ومدعوّون لتحقيقه في وسط تاريخنا.