عزيزى قارئ جريدتنا الغراء «المصرى اليوم»، لقد كان العمل على ضبط منظومة أخلاقيات المهن الإعلامية منذ بدايات القرن العشرين بداية طيبة، وتبع ذلك اقتراح وضع منظومة كمدونة لضبط التجاوزات المهنية فى الولايات المتحدة الأمريكية فى مجال الإعلام. تبعتها السويد ثم فرنسا، ثم تبعتها دول عديدة بعدها ومنها دول عربية. كما أن الكثير من الجمعيات والمنظمات الدولية أو الإقليمية وضعت نصوص شرف أو مواثيق حاولت من خلالها تدعيم العمل الإعلامى بضوابط كان يفترض أن تحكم وتؤطر عمل واضعى المحتويات الإعلامية، مع الالتزام بشروط الموضوعية والدقة والتوازن فى صياغة تلك المحتويات، وبشكل رافض لكل أشكال التضليل والتزييف، ومقاومة إثارة النعرة القومية أو النعرة الدينية التى قد تسهم فى التمييز بين أبناء البشر. غير أن المتابع للممارسات الإعلامية فى السنوات الأخيرة يلاحظ تزايدًا لحجم المحتويات المضللة ولخطاب الكراهية، سواء أكان هذا فى محتويات وسائل الإعلام التقليدية أم فى محتويات وسائط التواصل الاجتماعية الإلكترونية، ما يوجب علينا التوقف للدراسة والتفكير والبحث الموضوعى لفهم مسببات التفاوت بين الخطاب النظرى والعمل الفعلى على الأرض.
 
ولعل من بشروا وأكدوا مؤخرًا على أهمية دعم منظومات الإعلام الرقمى، قد باتوا يرون مع تعدد المصادر فى ظل تلك المنظومة وآلياتها بما توفره من معلومات غزيرة، ضرورة الانتباه إلى أن تلك الخطوة قد ساهمت فى تراجع الوصول بيسر إلى عملية تقييم مصداقية تلك المعلومات على نحو مقبول، وهو ما كان له نتائج غير طيبة اجتماعيًا وشخصيًا وتعليميًا إلى حد يمثل خطورة تفرض التعامل الحريص.
 
نعم، فالبيئة الرقمية تشكل فضاء تتسارع من خلاله عمليات نقل الأخبار والمعلومات عبر اختيارات متعجلة أيضًا للمصادر، فتشكل آلية أسيرة لفورية الخبر وبالتالى فى عدم الوثوق فى صحته لضرورة سرعة نشره فى النهاية.
 
وعليه، بات المتلقى الرقمى الجديد مشغولًا بمظاهر وآليات بيئة التقنيات الرقمية، وباتت تخدعه مهارت استخدام الأدوات الرقمية التى تتطور باستمرار، وهو ما يلزم التوقف لدراسة مثل تلك السلبيات عند الشروع فى إنتاج الأخبار وكيفية تعامل الشباب معها.
 
وعلى الجانب الآخر، فإن الفضاء الافتراضى اليوم المعتمد على وسائل التواصل الاجتماعى بات يمثل ساحة حروب، حيث حالات التجييش والتعبئة والاحتقان والعداوات والمؤامرات والمراهنات الغبية والسجالات غير المنطقية والمداخلات الموتورة وإثارة الأفكار الطائفية والتمييزية والعنصرية، وإقصاء الحلول الواقعية والأفكار البناءة، وجميعها لا تغيب عن المنصات التى تحولت إلى حلبة صراع وقودها جيوش إلكترونية يتردد على مواقعها أشاوس النضال المجنون لإدارة عمليات الانتصار لأفكار يدافعون عنها بشراسة وإلحاح!!.
 
نعم، لدينا مشكلة فى الفضاء الإعلامى وعلينا البحث فى آليات الهيمنة على الخبر الإلكترونى، والعمل على الحرب النفسية المضادة، وأن نبحث كيفية التعامل مع اللجان الإلكترونية، فقد بات من يشكل الرأى العام حاليًا ليسوا الشرفاء وأهل الخبرة وإنما اللجان المبرمجة التى تدار من إدارات فى الخارج والداخل.
 
لا شك، أن فضائيات زماننا، العام منها كما الخاص، الشامل منها كما المتخصص، تبقى تابعة فكريًا وعمليًا لأغراض وأهداف مالكها أو ممولها، أو من يستضيف برامجها على أرضه، أو من يمنحها سبل الارتباط عبر هذا القمر الصناعى أو ذاك، أو من يضخ المال بميزانياتها عبر الإعلان والإشهار، أو من يزودها بالمعلومات ومصادر الأخبار، وما إلى غير ذلك من عوامل تمكين. وبالتالى فالاستراتيجية الإعلامية هنا تبقى مترجمة لنوايا من ذكرنا للتحكم المادى المباشر.
 
والإعلام كما الفنون، دائمًا ما يكون السؤال بشأنهما: هل نقرر أن وظيفة الإعلام أن يعكس ما يروج بأرض الواقع، أن يكون مرآة لما يعتمل داخل المجتمع من وقائع وأحداث وقضايا، أن يعكس بالصوت والصورة حقيقة ما يجرى دون تجميل، أم يكون الإعلام أداة للتغيير والتحول والانتقال للأفضل، عبر خطط علمية وموضوعية توعوية وتنويرية بمساهمة فعلية فى التصدى للتعامل مع أهم التحديات التى تواجه صانع ومتخذ القرار؟.
 
على سبيل المثال، فى مجال مواجهة مكافحة الشائعات المزيفة للواقع، من الأدوات المستحدثة التى اتجهت إليها دول العالم وجود محاور أساسية فى الاستراتيجيات العامة لمكافحة الشائعات والأخبار المزيفة، أهمها بروز دور الآلة فى عمليات الرصد والتعقب، وهو ما يتواكب مع الانفجار الهائل فى البيانات أو ما يسمى بالبيانات الضخمة التى تنمو بمعدلات فائقة، ويصعب على الفرق البشرية التقليدية تحليلها وتتبعها.
 
تذكر الكاتبة والباحثة د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح أنه إلى جانب دمج الشركات الموفرة للخدمات الرقمية، مثل فيسبوك وجوجل وتويتر، فى عمليات المكافحة باعتبارها طرفًا أصيلاً إن لم يكن متهمًا، كيف وافقت الحكومة الألمانية على مقترحات قوانين جديدة تجبر شبكات التواصل على المشاركة فى محاربة خطاب الكراهية على الإنترنت وإلا واجهت غرامات تصل إلى 50 مليون يورو.
 
وتؤكد الباحثة أن هذا الدمج قد ساعد فى وجود اتجاه قوى بين هذه الشركات لإغلاق الحسابات المزيفة، وتغيير سياسات الاستخدام بما يقلل من فرص ظهور النشاطات المشتبه فيها، وغير ذلك من الإجراءات الهامة. وعلى الصعيد نفسه، يتصاعد دور المؤسسات الأكاديمية والعلمية فى تدشين مشروعات تتعاون فيها التخصصات التكنولوجية والإعلامية والاجتماعية لاستحداث منصات تستخدم التكنولوجيا فى رصد الشائعات ومكافحتها، دون الاقتصار على الرصد الأمنى وأساليب المعالجة التقليدية، الأمر الذى يشير إلى الأثر البالغ لنشاطات البحث العلمى وربطها باحتياجات المجتمع، وفتح قنوات للتواصل بينها وبين المؤسسات المجتمعية المختلفة.
نقلا عن المصري اليوم