بقلم / عيد اسطفانوس
أليس غريبا أن ينتاب الناس شعور بالصدمة فى وفاة امرأه مسنه قاربت أيامها القرن من الزمان ؟ ترى ما هو السر الملوكى الكامن وراء هذه الاحتفالية الاسطورية الرائعه ؟ وكيف استحوزت هذه المرأه على عواطف هذا الكم من البشر ؟ وفى رأيى أن البريطانيين ترسخ فى أذهانهم أنها ملكة الى الابد لأسباب عدة نوجز منها على سبيل المثال الحصافة السياسية التى تمتعت بها منذ أن ارتدت تاجها الملوكى وحتى آخر يوم فى حياتها ، وقد قضت ريعان صباها فى أهوال الحرب وذاقت مع شعبها شظف عيش أيامها وارتدت التاج مع الخطوات الاولى لاعادة بناء بريطانيا العظمى وعاصرت وتجاوزت بهدوءها وحنكتها رغم حداثتها أحداث هائله ، واستطاعت ببراعة وانسانية التغلغل فى وجدان كل البرطانيين انجليز واسكتلنديين وويلزيين وايرلنديين ومهاجرين ، وأنا شخصيا أعتقد أن هذه المرأه يعود اليها الفضل فى استمرار كل الانظمة الملكية على ظهر الكوكب .
وقد عاصرت خمسة عشر حكومة ولم يذكر على الاطلاق أنها تدخلت فى شئون السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية أو حتى اختلفت معها فقد كانت تعى وظيفتها الدستورية جيدا ملكة تملك ولا تحكم رمز للأمه حاميه للدستور وقد نالت احترام الجميع بلا استثناء . ومنها ايضا الحصافة الاجتماعية اذ استطاعت وببراعة فائقة أن تعبر أزمات عائلية خانقة كانت كفيلة بتدمير سمعة وتراث العائلة الملكية بل وانهاء وجود أعرق ملكية على ظهر الكوكب ، وان كان لابد من الاشارة أن هذه المرأه قد وقف معها القدر وقفات حاسمة فلولا تنازل عمها عن العرش لأبيها لما كانت ملكة ولولا موت زوجة ابنها ومطلقته لكانت شوكة غائرة فى جنب العرش وكانت كفيلة باثارة المشاكل الدينية والسياسية فى طريق انتقال سلس لوراثة العرش .
ان رعاياها الذين تدفقوا بالملايين الى مسار جنازتها لوداعها الوداع الاخير بالزهور والدموع كان كل منهم يعتقد بأن ذلك النعش الذى يمر أمامهى يضم ملكته هو الشخصية وليست ملكة الكومنولث كله فقد استطاعت هذه المرأة (الخارقة ) أن تسكن قلوب شعبها فردا فردا رجالا ونساء شيبا وشبابا وصغارا . وعدا مغامرة دموية استغرقت احد عشر عاما فى النصف الثانى من القرن السابع عشر وهى جمهورية كرومويل ، عدا هذه الحقبة ظلت الملكية صامدة على هذه الجزيرة بل وامتد سلطان التاج الى امبراطورية لاتغيب عنها الشمس .
هذه هى اليزابيث الثانية التى لحقت برفيقها قبل أن تمر الذكرى الاولى لوفاته وقد كان فى انتظارها فى قبر مؤقت وبالأمس نزلا معا الى مثواهم الاخير فى احتفال جنائزى مبهر بكل المقاييس ، احتفال بالنصر أو بالوصول الى خط النهاية بسلام ، احتفال يظهر فلسفة الاحتفاء بالموت باعتباره قرين الحياه وباعتباره تكريم أخير لأرواح عزيزة نستبقيها معنا فوق سطح الأرض أطول مدة ممكنه .
هذا هو مظهر اكرام الملوك فى الحضارات العريقة وقد كان المصريون القدماء أول من احتفى بموت ملوكهم بطقوس جنائزية مبهرة ومنظمة ودقيقة ، مراسم سجلوا تفاصيلها على جدران معابدهم منذ لحظة خروج الروح حتى تجهيز المستقر الاخير ، أما البؤساء فاكرامهم التعجيل بلحدهم واهالة التراب عليهم قبل بزوغ فجر يوم جديد .
وقد يتساءل الكثيرون ( وخصوصا فى محيطنا الجغرافى الثقافى الضحل ) الذين تابعوا مشاهد هذا (العرس ) الجنائزى المبهر عن مغذى هذه الطقوس المرتبة بهذه الدقة الفائقة (يقال أن الملكه قد وضعت هذه الترتيبات بنفسها )وماهو العائد منها وللرد على هؤلاء نقول أن العقول التى تطرح هكذا تساؤلات لا يجدى معها أى ردود أو تفاسير فالأصالة والعراقة لا يتم شرحها لكنناعلى الأقل نعرف الآن لماذا يتقاتل ألآف المهاجرين ويموتون غرقا كل يوم لعبور المانش لماذا لا تعجبهم أوربا كلها ويريدون بريطانيا بالذات بريطانيا المملكة المتحده . فالشعوب التى تحتفى بالموتى حرى بها أن تحتفى بالأحياء .
عيد اسطفانوس