بعد مقالي " شنودة .. لمن ؟ " سألني عدد من الأصدقاء أن أعيد نشر قصة " الباب المغلق" التي كتبتها ونشرتها عام 2008 نظرا لأن عددا كبيرا لم يقرأها ، كما أنها تطابقت مع حكاية شنودة المؤلمة كما أشرت في المقال، هاهي ..
قصة قصيرة : أحمد الخميسي
في شقة صغيرة بالطابق الأول من عمارة في حي الظاهر سكن الأستاذ موريس المحاسب في أحد البنوك مع زوجته مدام جانيت التي تعمل في مدرسة تعليم لغات أجنبية. الإثنان تجاوزا سن الإنجاب دون أن ينجبا، لكنهما قانعان بحياتهما التي تمضي في هدوء وتتخللها نزهات وزيارات يوم الإجازة. في العمارة محمود البواب الذي جاء من أسوان منذ زمن وعاش أسفل السلالم وحده مع ابنته الصغيرة هدى التي كانت تشتري للسكان وخاصة لمدام جانيت الحاجات من المحلات الواقعة أمام العمارة. موريس وجانيت – المحرومان من الأولاد – أحسا بميل وبعطف على البنت الصغيرة التي لم تكن تطلب شيئا حين تعود إليهما من المحل وتكتفي بابتسامة واهنة، سعيدة بكل ما يعطى لها، سواء أكان ورقة نقدية أم نصف رغيف خبز بداخله قطعة لحم. في أوقات المغرب كان يحدث أن تأتي هدى بشاي أو خبز للأستاذ موريس، وتكون الشقة خالية من الضيوف، فتقول لها مدام جانيت: اقعدي يا هدى استريحي وأنت طالعة نازلة طول النهار. فتجلس هدى فقط على حافة الفوتيه، كأنها تخشى أن تجلس عليه كله، تبحلق في التلفزيون بصمت، فإذا قدمت لها مدام جانيت قطعة كيك صغيرة قضمت منها من دون أن ترفع بصرها عن الشاشة، وتظل جالسة هكذا إلي أن تسمع صوت والدها ينادي عليها لأن أحد السكان في الطابق الثالث أو الرابع يطلب شيئا من المحلات، حينئذ تفز هدى، وتهرول، وتغمغم من عند الباب وهي تنصرف بكلمات شكر غير مفهومة. تغادر هدى الشقة فينسل لون ما من الجو، ويحل شعور خفيف حزين في الصالة وعلي كسوة المقاعد، شعور بالوحدة والأسف، ويتفادى موريس وجانيت أن تتقاطع نظراتهما، إلي أن ينطق هو ورأسه فوق الجريدة بعبارة ما، ليس لها معنى خاص، و تؤكد هي على كلماته التي شردت عنها وعيناها سارحتان: طبعا. طبعا، ثم تنهض واقفة: أعمل لك شاي؟. وينظر كل منهما إلي الآخر نظرة تنقل مزيجا من مشاعر العتاب والذنب والغفران ومن العرفان لأنهما مازالا معا، ولأن أيا منهما لم يقل للآخر أبدا إن الحياة موحشة.
في يوم آخر تطرق هدى الباب، وتجلس على حافة الفوتيه أمام التلفزيون تتفرج بفيلم كوميدي قديم، تأكل مما يقدم لها، وفي تلك الأثناء تقيس عليها مدام جانيت فستانا قديما ضاق على نجوى بنت أختها، وتفرح هدى، وتنهض بعد ذلك وتساعد مدام جانيت في غسل الصحون، ثم تنام على الكنبة في الصالة حتى الصباح. أبوها لم يجد مشكلة في بياتها المتكرر، فشقة موريس وجانيت قريبة منه في الطابق الأول بجوار السلم، والأستاذ موريس رجل طيب وكبير في السن.
كل يوم أربعاء يتجه أبو هدى إلي مستشفى قصر العيني لغسيل كليته، ويعود منهكا أصفر الوجه يرقد على فرشته وهدى تناوله الماء والخبز، هكذا رجع هذه المرة، لكنه اليوم بعد أن رقد ساعتين يئن تحت السلم فارق الحياة. وانتبه سكان العمارة إلي أنهم لا يعرفون لمحمود البواب لا عنوانا ولا أقاربا، ولم يكن يذكرهم بأصله سوى أبناء بلدته العابرين، الذين كانوا يظهرون بحثا عن عمل، فيشربون معه كوب شاي على الدكة أمام مدخل العمارة ويستمعون لنصائحه ثم يرحلون. الحاج شفيق قام بجمع تبرعات من سكان العمارة وتولى مع الأستاذ موريس إجراءات الدفن. في المغرب ظلت هدى واقفة تشبثت قبضتاها الصغيرتان بالسور الحديدي لسلم العمارة، رأسها مدلى تنظر إلي الفرشة التي كان ينام عليها أبوها تحت وتبكي، ومدام جانيت تواسيها وتجذبها لتدخل الشقة ثم تيأس منها فتتركها وتعود إليها بعد ساعة إلي أن وجدتها نائمة تقريبا وقد أسندت خدها إلي حديد السور فسحبتها من يدها إلي الداخل. بقيت هدى في الشقة، وموريس وجانيت يطيبان خاطرها كل يوم بالكلمات وقطع الحلوى حتى كفت عن البكاء من الخارج، وبدأت تختلس النظر إلي لقطات من أفلام التلفزيون وهي تمسح أنفها في كمها. وحين صارت إقامة هدى عند الأستاذ موريس أمرا مسلما به، اشترت لها مدام جانيت من ممر الراعي الصالح فستانا وحذاء جديدين، وبدأت تخرج معها وتمسك بيدها بحرص وهما تعبران الشارع، وبعد فترة أخذت جانيت تفكر في وضع سرير لها في الحجرة الصغيرة، وحين مضى على وجودها شهر كامل قالت جانيت لموريس بحنان: إيه رأيك لو دخلنا هدى مدرسة قريبة ؟.
مساء ذلك اليوم عرج موريس على صيدلية بركات المجاورة ليشتري علبة أنسولين، فغمزه د. مصطفى الصيدلي وهو يفتش عن الدواء بسؤال عابر: أخبار البنت هدى إيه يا أستاذ موريس؟ مش الحمد لله بخير؟. ولم يتوقف موريس عند السؤال طويلا، وأجاب: الحمد لله. مساء ذلك اليوم عرج موريس على صيدلية بركات المجاورة ليشتري علبة أنسولين، فغمزه د. مصطفى الصيدلي وهو يفتش عن الدواء بسؤال عابر: أخبار البنت هدى إيه يا أستاذ موريس؟ مش الحمد لله بخير؟. ولم يتوقف موريس عند السؤال طويلا، وأجاب: الحمد لله. ماشي الحال. وبعد يومين وجه الحاج عصفور صاحب محل العطارة السؤال ذاته إلي موريس لكن بنظرة ثقيلة باردة جعلت موريس يتساءل: إيه الحكاية؟. شخص ما نكش في الشارع موضوع هدى قائلا «موريس أخذ البنت الصغيرة في بيته وح يخليها نصرانية، ح يربيها على طريقتهم!»، وتواثب الكلام من محل المكوجي إلي صاحب المخبز ومن دكان العصير إلي المقهى ومن بائعة اللبن إلي البيوت. في نهاية الأسبوع سدد الجزار وهو يقطع فخذا بالساطور نظرة عداوة إلي موريس وطرح عليه السؤال بنبرة أقرب إلي المساءلة منها إلي التساؤل. هذه المرة أدرك موريس المقصود بالكلام، فبهت وتلجلج قائلا «الحمد لله» وأسرع منصرفا. في اليوم التالي قرر أن يستشير لطفي صديقه وزميله في البنك، فنصحه على الفور بطرد البنت قائلا «بقاؤها عندك ممكن يعمل لك مشكلة في الشارع والمنطقة كلها». جزع موريس من الكلمة «أطردها إزاي؟ دي طفلة؟ ومالهاش حد؟». فرد عليه لطفي «سرحها، شوف لها حد غيرك تقعد عنده». بسط موريس كفيه بحيرة متألما «لكن البنت بتحبنا أنا وجانيت ومستريحة معانا،كمان احنا.. ». قاطعه لطفي بحزم «سيبك من حكاية الحب والراحة دي، المسألة أكبر من كده يا موريس».
في طريق عودته أحس موريس أن حجرا ثقيلا يهوي بقلبه فرفع بصره إلي السماء الغائمة بنظرة عتاب ورجاء، وما أن دخل إلي الشارع حتى شعر بالأعين تلاحقه في صمت، تترقب قراره، وتحثه عليه، وعندما اقترب من محل الجزار خرج له صبيه ودفعه في كتفه كأنما بشكل غير مقصود وتابع سيره، وألقى الجزار عليه نظرة قاسية وهو يرفع الساطور ويمزق به اللحم والعظم.
جلس موريس في الصالة يسأل نفسه كيف يطرد طفلة صغيرة بلا أهل ولا سند، إلي الضياع؟ وماذا يقول لجانيت؟ وللبنت؟.
في الأيام التالية أخذ دوي كلمات الغمز واللمز من الشارع يصك أذنيه بقوة أشد، وتذكر كلام لطفي، فحكى لجانيت كل شيء. استمعت إليه جانيت واقفة بوجه مخطوف باهت ولم تقل كلمة، جلست على حافة السرير وبكت طويلا بصوت مكتوم، ثم نهضت وهي تجفف عينيها بيدها واتجهت إلي المطبخ. نادى موريس هدى فأسرعت إليه «نعم يا عم موريس» ووقفت أمامه منتظرة في فستان أوسع وأطول مقاسا. مط شفته السفلى، وشبك أصابع يديه ولم يجد ما يقوله للبنت الصامتة. أخيرا استجمع موريس شجاعته وشرح لها بقدر ما يمكن لطفلة أن تفهم أن عليها أن تغادر الشقة. البنت الصغيرة في الفستان الأوسع والأطول مقاسا عليها بكت ومع أنها لم تظهر من قبل عنادا أو تشبثا بشيء إلا أنها هزت رأسها بنفي «لاء». وأعاد موريس ماقاله بكلمات أخرى فاستغربته: «ح أمشي فين؟ أنا ما أعرفش حد، ومدام جانيت قالت لي ح أرتب لك الأوضة الجوانية ؟» وحسما للوضع هرولت إلي جانيت في المطبخ «الحقي..عم موريس بيقول لي أمشي!». وأشاحت جانيت بوجه متصلب كأنها لم تسمعها متشاغلة بدعك الأطباق بقوة.
في اليوم الثاني، والثالث، والرابع، كرر موريس لهدى ما قاله من قبل، وأوضح لها إنه يحبها مثل ابنته بالضبط، بل هي ابنته، لكن هدى لم تعد تعير كلماته أي اهتمام. تسمع ما يقوله وتهز رأسها بنفي وتنصرف إلي الصالة تراجع ما علمته إياها مدام جانيت من حروف الكتابة أو تتفرج على التلفزيون. مرة بعد مرة، وأخيرا لم يجد موريس بدا من جذبها بقوة من ذراعها وجرجرتها خارج باب الشقة.
البنت ملتصقة بالباب المغلق، تخمشه من خارج الشقة كالقطة وتبكي: أنا زعلتك في حاجة؟ والنبي دخلني. دخلني والنبي ياعم موريس. وفرت دموع موريس وراء الباب المغلق يقول: ما أقدرش يا بنتي.. والعدرا ما أقدر. والنبي، والعدرا، والنبي، والباب مغلق خلف كل ناحية شخص وحيد في أمس الحاجة للآخر.