بقلم: نبيل المقدس
وقتها كانت " مـــاري " في المطبخ .. يادوب بِتقلبْ البصلة في الزيت علي النار .. سَمعتْ ضجيج وهتاف .. ماما ماما .. نجحت نجحت يا ماما .. ألقتْ " المغرفة " وتركتْ كل شيء , وخرجتْ فاردة ذراعيها وحضنتْ ابنها الوحيد وضَمتهُ إلي صدرها بقوة شديدة .. واختلطت دموع البصل مع دموع الفرحـــة , وأخذتهُ إلي حجرتِهِ بعد ما إطمأنتْ أن مجموعه يأهلهُ دخول الهندسة والتي كان يغواها ويعشقها ويتمناها ... ومن شدة فرحتها صارت تحتضنه كل حين وحين , ولم تتركهُ إلا بعد ما إشتمتْ رائحة شيــــاط " الطـــــــاسة " فهرعت إلي المطبخ تحاول أن تشق طريقها إلي مكان البوتاجاز بين كثافة الدخان , وتحملت كل هذا عندما سمعت ضحكات ابنها تجلجل من داخل حجرته يفتح شباكها لكي يخرج منها هذا الدخان .. وقال لها ضاحكــــا " عشان تحرمي تحضنيني من دلوقتي لأنني اصبحت رجلا ". وفي وسط هذا الجو المرح .. قال لها : هديتك ايه بقي ياست الكل ليّ ؟؟؟؟ قالت له : اطلب الدنيا كلها وانا سوف انزل فورا وإحضرها لك ... قال لهـــا : أوكي ماما .. انا بقي عايزك تجهزي لي نسر من دلوقتي لزوم إلتحاقي بالجيش ...!!!!!
وفجأة إنقلبَ هذا الجو الضاحك والمرح , وتوقفتْ عن ضحكتها عندما سمعتْ ما يطلبه وصرختْ في وجهه " لالالالا .. إطلب ولو عُمري الباقي ... فيما عدا النسر ده ...!!! " وراحت في هستيريا من البكــــــاء ولم يكن علي لسانها إلا كلمة " مش ممكن .. مش ممكن .. مش ممكن " . تعجب الإبن .. وأخذ يسأل نفسه : ما الداعي أن تنفعل بهذه الطريقة ؟؟ وما جعله يندهش اكثــر أنه شاهدها تدخل حجرتها وتغلق ورائها الباب بالمفتاح لأول مرة في حياتهمــــا .. أخذ يناديها من وراء الباب .. لكن كان الرد الذي كان يسمعه هو ما إلاّ صوت شهيقها الممزوج بالبكاء المكتوم . لم يفلح في أن يجعلها تفتح الباب له .. مما إضطرته الحالة أن يصعد إلي الدور الذي يليه حيث تقطن جدته مع خاله وعائلته .. كالعادة أخذته في حضنها عندما رأت علامات اليأس والحزن .. تعجبت جدته وقالت له : هو إللي ينجح يبقي مكشــر .. لكنه حكي لها ما حدث .. وإذ فجأة تبعده عن صدرها بطريقة عفوية , ونظر إليها إذ يجدها تبكي ودموعها تنهمـــر من بين تجاعيد خدودها .. تعجب ووقف في وسط الحجـــرة .. يصرخ هاتفا : فيه إيه ياناس .. دلوني ... عرفوني السبب إيه ؟؟ لكنه لم يتلقي أي رد من جدته إلا " حاول ترضي مامتك ... دي مالهاش إلا انت من بعد وفة والدك يا ولدي .. وعموما هي اكيد هتصارح لك بالسبب .. لكن أعطي لها الفرصـــة . .
نزل الأبن إلي مسكنهم .. ووجد باب حجرة والدته متوارب , وشاهد أمه من بعيد نائمة وهي تحتضن شيئا ما في حضنها .. لم يركز ماهو هذا الشيء تجنبا ان يستيقظها ... دخل حجرته فقد كان علي ميعاد مع اصدقائه في النادي أن يقضوا أيام قليلة في أحدي المصايف الساحلية .. كانت أمه علي علم بها .. وقد كانت مجهزة شنطة السفر فيها بكل ما يحتاجه في المصيف . إنتظر ساعة حتي تستيقظ والدته لكي يأخذ بخاطرها ويودعها قبل ان يترك المنزل ويغيب عنها 3 ايام . لكن إنتظاره طال حتي مر عليه اوتبيس الرحلة , ليأخذ بعضه مجبرا ليلحق بأصدقائه .
قامت الأم مسرعة اتجاه البلكونة عندما أحست أن إبنها قد خرج لكي تودعه قبل ما يصعد داخل الأوتبيس .. لمحها في البلكونة ونظر إليها قائلا : أنا بحبك اوووي يا ماما .. سامحيني أن كنت ضايقتك .. لكن اتمني اعرف سبب بكائك في يوم نجاحي .. قالت له : كنت اتمني ان باباك يكون معانا في مثل هذا اليوم .. فقد كان يتمني يشوفك مهندس مثله ... وها انت حققت حلمه .
تظاهر الإبن بأنه إقتنع , وظنت هي أنه صدق كلامها .. لكن الإبن في الحقيقة لم يقتنع بكلامها .. قضي ايامه الثلاثة في قلق .. لكن وعن طريق الصدفة لظروف تخص النواحي الإدارية والمالية الخاصة بالرحلة تقدم ميعاد الرجوع يوما واحدا .
وصل الإبن إلي البيت.. فتح الباب .. دخل كالعادة ينادي " ماما .. ماما " لكنه لم يسمع ردا .. فتوجه إلي حجرتها ووجدها نائمة وفي حضنها الشيء الذي لم يستطيع ان يميزه من قبل .. إقترب منها وطبع علي جبهتها قبلة .. فأستيقظت وفوجئت به .. ثم حاولت أن تخفي ما في حضنها .. لكنه كان اسرع منها .. وامسك بهذا الشيء لكي يجده " خوذة " .. قال لوالدته .. صارحيني ياماما .. ايه حكاية الخوذة دي ؟؟ .. قالت له مُجبـــرة :
كان والدك هو كل شيء في حياتي .. فقد تعرفت عليه منذ ايام الجامعة .. لكن زي ما أنت عارف هو كان خريج هندسة المدنية لكنه إلتحق بالجيش هو وزميله الحميم " عمك أحمد يسري والد صديقك يسري ". كان تكليفهما هو العمل علي الجبهة لصب القوعد الخرسانية للصواريخ .. كان "فــادي " باباك وعمك "احمد يسري" من اشهر الظباط حماسا ووطنية .. قضيا علي الجبهة حوالي 3 سنوات بعد نكسة 67 خصيصا لهذا العمل .. كانت اجازتهما مـرة كل 3 شهور وفي بعض الأحوال كل شهر . وكانت آخر اجازة لوالدك قبل معركة 6 اكتوبر بأسبوع .. قامت المعركة فجأة وانتفض قلبي وقلبي صديقتي "خديجة" زوجة صديق والدك أحمد يسري .. و انتقلت صديقتي خديجة وإبنتها الطفلة "أمنية" عندي في البيت .. نتابع اخبارهما بشغف وشوق وخوف .. وفي إحدي الليالي دق جرس التليفون هرعتُ إليه وإذ اسمع صوت " احمد يسري " فرحت به جدا ودخلت أوقظ زوجته "خديجة" , وبعد ما علمت أن زوجها علي التليفون توجهت فورا إلي السماعة .. لمحتُ علي وجهها علامات اقتضاب مع أنه كان عليها أن تفرح .. نظرت إليّ بحسرة والدموع في عينيها .. وقبل ما تخبرني خديجة .. صرخت في وجهها ارجوكي يا خديجة لا تنطقي بها ... !!فقد فهمت الآن .. ثم دخلت إلي حجرتي لكي ابكي حبيبي "فــادي" .
وفي الجناز اقبل إليّ صديق عمره وزميله احمد يسري لكي يواسيني .. ثم اعطاني هذه الخوذة وورقة في ظرف مكتوب عليها حبيبتي ماري .. وقبل ما يعـــود إلي الجبهه .. جاءني هو وزوجته خديجة ليقول لي .. انا مديون بعمري وحياتي لزوجك وصديق عمري " فـــادي " .. فقبل ما يُصاب بلحظات , وجدني بدون خوذة , فإذ فجأة اجده يخلع خوذته ويضعها علي رأسي .. وإذ شظايا صاروخ ينفجر بجانبنا واصابت إحداها " فـــادي " فقتلته في الحال ... ! كان شجاعا وشهما ... ضحي بروحه لكي أعيش .. ثم ناولني خوذة زوجي لكي أحتفظ بها و التي كانت سببا أن تحميه من موت محقق .
تذكرت الظرف الذي اعطاه لأحمد يسري لي .. فتحته وإذ أجد الورقة التي كتبها " فـــادي " لى عندما صارحني بحبه لأول مرة , فقد كان وقته يخجل أن يقولها لي خوفا بأن أرفض حبه ... " مــــاري .... تسمحي لي أن أحبك " .. وصبحان بين الحالتين .. فعندما قرأتها لأول مرة منذ سنتين , أخذت أضحك وأضحك من صيغة الجملة وتعبيره البسيط ... لكن عندما قرأتها بعدما فارقني أخذت أبكي وأبكي ... ولأول مرة أحس بقوة التعبير وعمق معناها ..!!
اخذت قلما وكتبت له الرد عليها " فــــادي .. تسمح لي أن أظل حبيبتك حتي نلتقي "..!
طلب إبنها منها هذه الورقة ليحتفظ بها وقال لها : عايزة الحق يا ماما ... هذه الورقة هي أعظم من 100 نســر.
ولثاني مرة يشتمون رائحة شيـــــــاط .. فأسرعا إلي المطبخ .. لكن كان الشياط هذه المرة صادر من مطبخ الجيران.
كل سنة وانتم منتصرين .. ونأمل ان نحتفل بيوم النصر السنة القادمة بعد ما نقهر روح التعصب والفتنة ونسترد الزمن الجميل مرة خري.... آمين !!!