محرر الأقباط متحدون
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة العاشرة والنصف من صباح اليوم الأحد القداس الإلهي في ساحة القديس بطرس أعلن خلاله تطويب البابا يوحنا بولس الأول وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها كان يسوع في طريقه إلى أورشليم ويقول إنجيل اليوم "كانَت جُموعٌ كَثيرَةٌ تَسيرُ مَعَه". أن نسير معه يعني أن نتبعه، أي أن نصبح تلاميذ. ومع ذلك، يوجّه الرب لهؤلاء الأشخاص خطابًا غير جذاب ومتطلب جدًّا: لا يستطيع أن يكون تلميذاً له من لا يحبه أكثر من أحبائه، والذي لا يحمل صليبه، ولا يتجرّد عن الخيور الأرضية. لماذا وجه يسوع مثل هذه الكلمات الى الجمع؟ وما معنى تحذيراته؟ لنحاول أن نجيب على هذه الأسئلة.
تابع البابا فرنسيس يقول أولاً، نرى حشدًا كبيرًا من الناس يتبعون يسوع، ويمكننا أن نتخيل أن الكثيرين قد انبهروا بكلماته وأذهلتهم التصرفات التي قام بها؛ وبالتالي، رأوا فيه رجاء لمستقبلهم. ما الذي كان سيفعله أي معلِّم في ذلك الوقت، أو - قد نسأل - ما الذي كان سيفعله القائد الذكي إذا رأى أن كلماته وموهبته تجتذب الحشود وتزيد من توافق الآراء عليه؟ يحدث هذا الأمر اليوم أيضًا: خاصة في لحظات الأزمات الشخصية والاجتماعية، عندما نكون أكثر عرضة لمشاعر الغضب أو نخشى شيئًا يهدد مستقبلنا، فنصبح أكثر هشاشةً؛ وبالتالي، على موجة العاطفة، نعتمد على الذين وببراعة ودهاء يعرفون كيف يستفيدون من هذا الموقف، فيستغلّوا مخاوف المجتمع، ويعدوننا بأن يكونوا "المخلِّص" الذي سيحل المشاكل، بينما يريدون في الواقع أن يزيدوا إعجابهم وسلطتهم.
أضاف الاب الأقدس يقول يخبرنا الإنجيل أن يسوع لا يفعل هكذا. إنَّ أسلوب الله مختلف، لأنه لا يستغل احتياجاتنا، ولا يستخدم نقاط ضعفنا لكي ينمِّي نفسه. هو، الذي لا يريد أن يخدعنا ولا يريد أن يوزع أفراحًا رخيصة. فهو لا تهمّه الحشود الكبيرة، وليس لديه عبادة للأرقام، ولا يسعى إلى توافق الآراء عليه، وليس عابدًا للنجاح الشخصي. بل على العكس، يبدو أنه يشعر بالقلق عندما يتبعه الناس بنشوة وحماس سهل. لذلك، بدلاً من أن يسمح لسحر الشعبية بأن يجذبه، هو يطلب من كل شخص أن يميز بعناية أسباب اتباعه له والعواقب المترتبة على ذلك. كثيرون من هذا الجمع في الواقع ربما كانوا يتبعون يسوع لأنهم كانوا يأملون في أن يكون قائدًا يحررهم من أعدائهم، شخص سيستحوذ على السلطة ويشاركها معهم؛ أو شخص يمكنه، من خلال المعجزات، أن يحل مشاكل الجوع والمرض. يمكننا أن نسير خلف الرب، في الواقع، لأسباب مختلفة، وبعضها، يجب أن نعترف، هو دنيوي: إذ وراء المظهر الديني المثالي قد يختبئ إشباع الاحتياجات الشخصية، والبحث عن المكانة الشخصية، والرغبة في الحصول على دور معيّن، وإبقاء الأمور تحت السيطرة، والرغبة في احتلال فسحات والحصول على امتيازات، والطموح للحصول على إشادات وثناء وغيرها. وقد يصل بنا الأمر إلى استغلال الله من أجل هذا كلّه. لكنَّ هذا ليس أسلوب يسوع، ولا يمكنه أن يكون أسلوب التلميذ وأسلوب الكنيسة.
تابع الحبر الأعظم يقول إنَّ الرب يطلب موقفًا آخرًا. إنَّ اتباعه لا يعني الدخول إلى بلاط ملكي أو المشاركة في موكب نصر، ولا حتى الحصول على تأمين على الحياة. بل على العكس، فهو يعني أيضًا "أن نحمل الصليب": مثله، وأن نأخذ على عاتقنا أعباءنا وأعباء الآخرين، ونجعل من حياتنا عطيّة، ونبذلها مقتدين بالحب السخي والرحيم الذي يحمله لنا. إنها خيارات تُلزم الحياة بأكملها؛ لهذا السبب أراد يسوع أن لا يضع التلميذ أي شيء قبل هذه المحبة، ولا حتى أغلى المشاعر وأعظم الخيور. ولكن لكي نفعل هذا علينا أن ننظر إليه أكثر من نظرنا لأنفسنا، وأن نتعلم الحب، ونستقيه من الصليب. هناك نرى ذلك الحب الذي يبذل نفسه حتى النهاية، بلا قياس وبلا حدود. نحن أنفسنا - قال البابا لوتشياني - "موضع حب أبدي من قبل الله". أبدي: أي لا يختفي أبدًا من حياتنا، ويسطع علينا على الدوام وينير الليالي الأكثر ظلامًا. وبالتالي، إذ ننظر إلى المصلوب، نحن مدعوون إلى ذروة ذلك الحب: أي لكي ننقي أنفسنا من أفكارنا المشوهة عن الله ومن إنغلاقاتنا، ولكي نحبه ونحب الآخرين، في الكنيسة وفي المجتمع، حتى الذين لا يفكرون مثلنا، وكذلك الأعداء.
أضاف البابا يقول علينا أن نحب: حتى لو كلَّفنا ذلك صليب التضحية والصمت وسوء الفهم والوحدة والعوائق والاضطهاد. لأنه – كما يقول يوحنا بولس الأول أيضًا - إذا كنت تريد تقبيل يسوع المصلوب، "لا يمكنك إلا أن تنحني على الصليب وتسمح بأن تجرحك شوكة من الإكليل الذي على رأس الرب". الحب حتى النهاية، بكل أشواكه: لا أشياء لم يتمَّ إتمامها، لا مساومات أو عيش هامد. إذا لم نهدف إلى العُلى، وإذا لم نخاطر، وإذا كنا نكتفي بإيمان سطحي، فنحن - كما يقول يسوع - مثل الشخص الذي يريد بناء برج ولكنه لا يحسب النفقة، ليرى هل بإمكانه أن يتمه؛ فـ"يضع الأسس" ومن ثم "لا يقدر على إتمامه". إذا تخلينا عن بذل ذواتنا، خوفًا من أن نضيِّع أنفسنا، نترك الأشياء غير مكتملة: العلاقات والعمل والمسؤوليات الموكلة إلينا، والأحلام، وحتى الإيمان. وينتهي بنا الأمر بالعيش نصف حياة: بدون أن نقوم أبدًا بالخطوة الحاسمة، وبدون أن نُقلع، وبدون أن نخاطر من أجل الخير، وبدون أن نلتزم حقًا من أجل الآخرين. هذا ما يطلبه منا يسوع: عِش الإنجيل وستعيش الحياة، لا نصف حياة وإنما حياة كاملة. بدون مساومات.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيها الإخوة والأخوات هكذا عاش الطوباوي الجديد: في فرح الإنجيل، بدون مساومات، وقد أحبَّ حتى النهاية. لقد جسّد فقر التلميذ، الذي ليس تجرّد عن الخيور المادية فحسب، وإنما وبشكل خاص التغلب على تجربة وضع الذات في المحور والسعي إلى المجد الشخصي. على العكس، باتباعه لمثال يسوع، كان راعيًا وديعًا ومتواضعًا. وكان يعتبر نفسه كالتراب الذي تنازل الله لكي يكتب عليه. لذلك كان يقول: "لقد أوصانا الرب كثيرًا: كونوا متواضعين. وحتى لو قمتم بأشياء عظيمة، فقولوا: نحن عبيد بطّالون". بالابتسامة، تمكن البابا لوتشياني من أن ينقل صلاح الرب. ما أجمل الكنيسة ذات الوجه السعيد والهادئ والمبتسم، والتي لا تغلق أبوابها أبدًا، ولا تفسد القلوب، ولا تشتكي ولا تستاء، ولا تغضب، ولا تقدم نفسها بطريقة قاتمة، ولا تعاني من الحنين إلى الماضي. لنرفع صلاتنا إلى أبينا وأخينا هذا ولنطلب منه أن ينال لنا "ابتسامة الروح". ولنطلب، بكلماته، ما كان يطلبه عادة: "خذني يا رب كما أنا، مع عيوبي، ونقائصي، ولكن أجعلني أصبح كما تريدني".